November 2014

Saturday, 22 November 2014

ثمة أمر لم يُسوى بعد "إنها مثل القمر، إنها القمر"




صوت القمر هو الفيلم الأخير لفيديريكو فيليني عن قصة إيرمبانو كافادزوني، قبل أن يتوفي في عام 1993 فلقد ترك إرثه الأخير في هذا العمل وقد كان يستحق أن يكون خاتمة مسيرته الكبيرة بشكلٍ أو بآخر، قالت عنه الصحافة حينها أنها من بين الأفلام التي يُمكن أن تُغير العالم كمبالغة شديدة للغاية ، " إيفو سالفيني" -أو سافاني- الذي هو بطل الرواية يظهر على الشاشة بهيئة روبيرتو بينجيني، القصة بالأساس عن صديقين "إيفو سالفيني" و "نيستوري والذي مثل دوره أنجيلو أورلاندو" غريبي الأطوار، في الحقيقة أغلب شخصيات العمل كانت بها شيء من غرابة، لكن الحبكة الرئيسية في العمل تنطلق من علاقة عاطفية محتملة يحاول كلًا منهما القيام بها، إيفو مع "ألدينا" الشقراء، وجونيلا عن سوزي مصففة الشعر.

الرؤية الشائعة عند البعض عن أن هذا العمل يُقدم شخصيات مريضة وهشة، فالأول يعاني من خوفه وتربصه الذي لا يجعله يرى ألدينا إلا وهو يتلصص في الظلام والآخر يعاني من ضألتة وقصر قامته، ولكن هنا فيليني يُقدم الحل الذي يجعل هذا العمل كوميديًا إنسانيًا برؤية استثنائية.

كان الطريق لإيفو ونيستوري في التغلب على ما يؤرقهما ،ليس حلًا سحريًا ولا غير مُصدق ولا مُشبع بحبكة عاطفية تكون الأساس على الدوام طوال العمل، بل هو يقوم على "اللغة" وسحر الحكاية والمسامرة، فقط أمران بسيطان، النقطة الأخرى التي تقدم تفوقًا هائلًا لهذه المادة الفنية للغاية التي قدمها  الكاتب والمخرج هو النضج في تقديم وصناعة الكوميديا لتلتصق مع شخصياتها بشكلٍ حقيقي، ولم يحدث أي تعارض ما بين لغة الكاتب كافادزوني وبين مرح وبهجة فيليني على الشاشة وحتى اللحظات الحزينة التي قُدمت بتوافق مذهل مع كل هذه العناصر.


يقول الكاتب والمخرج الياباني "أكيشو شيوتا " أنه لم يقدم في أفلامه رؤية يائسة عن العالم، رغم احتمالية أن يملكها الفنان ولكن شخصياته الذي ظهرت في أفلامه وأبرزها شخصية " ساشيكو" في فيلم " الحشرات الضارة" لم تكن إلا شخصية ناضجة أو أُجبرت على أن تكون ناضجة جدًا، عرفت العالم عن قُرب وإن كانت الحالة قاتمة، ورأينا في أعمال أخرى للألماني هيرزوج سخرية شاعرية من الجنس البشري ولكن فيليني لم يقدم هذا ولا ذاك، قدم رؤية بألوانه الخاصة، بحركته مع الكاميرا بموسيقاه، حالة من البهجة واليأس الناضج، مع التأمل العابر، الشخصيات هنا ليست سجينة لأنفسهم وأفكارهم بل لديهم ما هو أكثر. ليتغلبوا على وحوشهم أو أشباحهم اللطيفة بكل سهولة، ليسوا خارقين، وليسوا حثالة أرض.

الحالة ما بين الحلم والواقع كانت موجودة في هذا الفيلم لدى شخصية "جونيلا -باولو فيلاجيو " وهنا تتداخل الحالتين في تركيبة هذه الشخصية، الذي يرفض الموت، يرفض التغيير، يرفض العديد من الأشياء وقد كان الطريقة لدى المخرج ليرتكب الخطأ الكبير في العمل وهو إقحام رأيه الشخصي في الموسيقى والآلات الحديثة والثقافة الما بعد حداثية عبر فم " جونيلا"، ربما كان يريد ترك شغفه وحبه للموسيقى القديمة التي كان يسمعها في ريميني وحنينه إليها في داخل فيلمه الأخير، هنا قام فيليني بالتعاون مع توليو بينيلي بإقحام العديد مما لم يُذكر أو لم يكن في نواة الرواية التي كتبها كافادزوني، رغم أنهما لم يقوما بمس الفكرة أو الأحداث الرئيسية بالعمل الأدبي، ربما يكون أمرًا مفهومًا لأن فيليني أحد أركان الواقعية الجديدة كان ميالًا دومًا لترك أثر عن ذكرياته أو مشاهداته أو رؤيته في قلب أعماله، ربما دون أن يشعر المتلقي أيضًا.


الحالة الرومانتيكية التي يتركنا فيها الكاتب كافادزوني عبر بطل قصته بقوله عن ألدينا الشقراء التي ترتدي الأبيض "إنها مثل القمر، إنها القمر" تترك التداخل في تأملات وأفكار الشخصية الرئيسة للعمل ما بين الرؤية الواقعية وما بين الرؤى الغير عقلانية التي تتركه كائنًا كونيًا لا يعرف حدود، ليست بلدته ولا سجنه ولا صديقه ولا حتى ألدينا هى الحدود، فهو بلا حد.

ما خلقته الكاميرا من تكوينات وألوان، أماكن ضيقة وأماكن أكثر رحابة، الازدحام أو التسامر ليلًا مع صديق مع فضاء واسع جعلت الأمر كما لو أن الكاميرا تتحدث، وهذا ليس بوصف غير عقلاني، لقد ساعدت الكاميرا والألوان دائمًا فيليني في خلق رؤيته، ولذلك كان الإكثار من الصيغ البلاغية غير ضروري وربما هو من عيوب الفيلم بالجملة رغم ما يُمكن أن يُقدمه هذا "الإكثار" من مذاق أكثر حلاوة ورؤية ناعمة أكثر للعين، كما قلت فإن الكوميديا كانت ناضجة للغاية - في السينما على الأقل يتطلب ذلك- خاصة عندما نتحدث عن أناس محليون غاضبون ويبحثون عن حقيقة العالم ويجدون إشكالية ما بين تقاليدهم القديمة وما بين ثقافة ما بعد الحداثة، المعالجة كان بها الكثير من الحلم، ولكن إن لم يكن الأمر كذلك لكان فيلمًا كاملًا وهذا ليس ما يبتغيه المتلقي، بل إن تسوية الأمور في العمل وحبكته النهائية كانت ناقصة وكان هذا هو المطلوب بالذات عند هذه النقطة وهذه النهاية.