July 2017

Thursday 13 July 2017

المهرجانات السينمائية كطقس ديني


يفد الكتاب "نقادًا وصحفيين" من أنحاء العالم لقضاء أسبوعين، يعيشون فيهما حياة مناقضة تمامًا لحياتهم المهنية والشخصية اليومية.
للناقد الراحل أندريه بازا- كراسات السينما "الفرنسية"- نشر في 1953


أندريه بازا، ناقد سينمائي فرنسي، ولد في أبريل/ نيسان 1918 وتوفى في نوفمبر 1958. طوَّر الكثير من النظريات السينمائية والخاصة "بالفيلم"، كان واحدًا ممن قاموا بالكتابة في مجلة كراسات السينما الفرنسية الشهيرة في خمسينيات القرن الماضي. وله عشرات الكتب النقدية، من أهمها كتاب "ما هي السينما" وكتابيه عن جان رنوار وأورسون ويلز وكتاب سينما القسوة "من بونويل وحتى هيشتكوك". وأهدى المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو فيلم 400 ضربة إلى روحه.

بالنظر للأمر من الخارج، يبدو لي أن المهرجانات كانت دائمًا مثالاً صارخًا للدنيوية. ولكن بالنسبة لمحترفي المهرجانات من النقاد والكتاب، فإنه ليس هناك أكثر جدية و"أقل دنيوية"مما يُمكن أن يّرى في مهرجان كان.
وباعتباري شهدت كافة دورات كان منذ نشأته في 1946، فأنا شاهد على عملية الإتقان المتنامية لظاهرة "المهرجانية"، والطقوس والإجراءات التي وُضعت، وإنشاء الهيراركية "التراتبية الهرمية" في أروقته. وبمقارنة تاريخية، تذكرني هذه التراتبية بتأسيس الجماعات الدينية، فالانخراط التام في المهرجان يبدو وكأنه انقطاع للعبادة في دير. فالقصر العالي في "لا كروازيت" لا يقل عن كونه ديرًا معاصرًا مخصصًا لصناع السينما.
قد يظن البعض بأنني أحاول أن أكون مثيرًا للارتباك والتناقض، لكن هذا بعيد جدًا عن حقيقة الأمر، هذه المقارنة طرقت ذهني في نهاية 17 يومًا من النُسُك والعزلة والحياة المنظمة بالكامل. فإن كانت الجماعة الدينية تُعرف بقواعدها الخاصة والتزامها بحياة من التأمل والتفكُّر، حيث ينضم الناس للعبادة المقدسة لواقع فوقي متجاوز، إذن؛ فالمهرجان هو تنظيم ديني.
يفد الكتاب "نقادًا وصحفيين" من أنحاء العالم لقضاء أسبوعين، يعيشون فيهما حياة مناقضة تمامًا لحياتهم المهنية والشخصية اليومية.
بداية؛ يأتي الكتاب كـ"مدوعوين" يُمنحون شعورًا بالراحة لا يخلو من التقشف، فالقصور محجوزة لأعضاء لجنة التحكيم والنجوم والمنتجين. هم يعايشون درجة من الفخامة مناسبة تمامًا للعمل الذي يتعين عليهم القيام به. وأنا أرحب تماما بالتخلي عن غرفتي الفندقية لصالح صومعة في أي دير، دون الفراش الخشبي بالطبع! وعلى ذكر الفراش الخشبي، المخرج لويس بونويل عضو لجنة التحكيم في دورة المهرجان المقامة عام 1954، لم يتردد في استبدال فراشه الوثير في الكارلتون، ويضع مكانه منضدة خشبية اعتاد النوم عليها.
السمة الرئيسية في حياة المهرجان تكمن في الالتزام الأخلاقي وانتظام جميع أنشطته. يستيقظ الصحفيون في حوالي التاسعة صباحًا. الطقوس اليومية تحضر مع وجبة الإفطار في شكل نشرتين للمهرجان، هما دوريتا سينماتو وفيلم فرانسيه، وهما تحويان جداول عروض اليوم الممتد حتى حفلات متأخرة "ماتينيه"، وحفلات أكثر تأخيرًا قد تصل لفجر اليوم اليوم التالي، بالإضافة طبعًا للحفلات المسائية "سواريه".
فتصبح الوجبة الثانية وكأنها وجبة إفطار "كسر الصيام"، ويتأخر العشاء 200 عام. بينما أصبحت حفلات الماتينية تعرض قبل دخول المساء، بينما الحفلات المسائية "سواريه" تمتد حتى مطلع النهار. ومهما تأخر الوقت الذي يخلد فيه المشاركون في المهرجان إلى فراشهم، عليهم أن يستيقظوا في الفجر، والفجر هنا هو الاسم الذي نطلقه على العرض الخاص الذي يجري في العاشرة والنصف صباحًا.

الممثلة الفرنسية الشهيرة ميشيل مورجان من حفل كان 1946 وقد قامت بالاشتراك في أكثر من 70 فيلمًا
تقام هذه الصلاة في إحدى كنائس "دور عرض" المدينة. وعلى الصحفي أن يعود بعدها إلى الكنيسة الأم للحصول على الدوسيه الاحتفالي من المكتب الصحفي، ويضم النشرات الصحفية والدعائية للأفلام المعروضة، والمقالات المنشورة عن فعاليات اليوم، والدعوات التي لم تُرسل مباشرة إلى الصحفيين في فنادقهم. صارت الساعة الآن 12.5 ظهرًا، وقت مؤتمر صحفي معتاد سيقدم لنا موضوعات يمكننا أن نتناقش فيها خلال وجبة الغداء المتأخرة، وفي الثالثة يأتي موعدنا مع الحركة من جديد في اتجاه القصر البازيليكي حيث يعرض فيلم الظهيرة.
ولأن طقوس الصلاة المسائية لا يمكن التعويل عليها، سأصف لك الإجراءات الليلية في "كان". تخرج في السادسة مساءً، الصحفيون العاملون في الطبعات الصباحية يبدأون العمل على تقاريرهم التي سيملونها تليفونيًا للصحف بحلول الثامنة مساءً، العاملون في الطبعات المسائية طبعًا أكثر استرخاءً، ويتجهون لحفلات الكوكتيل التي تبدأ في السادسة والنصف. ثم يأتي العشاء في الثامنة والنصف ليطلق أهم احتفالية: اختر ما يحلو لك. لكن أوامر المهرجان صارمة فيما يتعلق بكود الملابس خلال قداسه الليلي، على الأقل.

صوفيا لورين على سلالم المهرجان عام 1955
لقد بلغت من العمر من يجعلني شاهدًا على بداية تأسيس هذه الطقوس، وما يجعلني أحد من طُبقِّت عليهم هذه الإجراءات. في الدورات الأولى لمهرجاني "كان" وفينيسيا، لم تكن قد وضعت القواعد بهذه الصرامة. وكانت تعج بالصحفيين الشبان، وببعض أبناء الطبقات العاملة، ينظرون للأسفل وهم يتناولون الغذاء بستراتهم المتواضعة، وربما تسبب لهم رؤية بدلة داكنة الكثير من المشاكل.
لكني رأيتهم يتخلون عن كل هذا الانطلاق بمرور السنوات، واحدة تلو الأخرى. في البداية كانت هناك سنة داروا فيها على أصدقائهم لاقتراض بدلة سهرة قديمة، لكنهم استسلموا وأعلنوا القسم. واليوم صار العاملون في المؤسسات الصحفية الـ17 التي تأتي لتغطية المهرجان، يرتدون جميعهم الثياب الرسمية، ويبدو وكأن هذا هو الطبيعي. بشكل شخصي، ولا أرى في ذلك أي حرج، فإن هذه البذلات الرسمية كانت تبدو جيدة عليّ، خاصة البيضاء منها، رغم أن رابطة العنق على شكل الفراشة دائمًا ما تشعرني بالفشل عند التعامل معها.
لكن الثياب لا تصنع الرجال، كما أن العضوية في هذا التنظيم المهرجاني، صارت تتأكد ببطاقات تصدرها ماكينة تمنحك كارتًا يتيح لك الدخول. وبمجرد أن تدلف لتلك الأرض المقدسة، تبدأ هيراركية جديدة، يمكن أن ندعوها بالتمييز الفعّال. الصحفيين يحجزون المقاعد بين الصفين السادس والعاشر من مقاعد الأوركسترا.
ولو أنك تركتهم لأنفسهم دون تحديد، فستأخذهم أقدامهم للمواضع نفسها بحكم خبرتهم. لن يقتربوا من الشُرفة "البلكون"، وهي بعيدة جدًا عن الشاشة، ومناسبة تمامًا لأعضاء لجنة التحكيم والنجوم. ورغم ذلك، كل العيون تتجه للبلكون، فتصميم القصر الذي يُعقد به مهرجان "كان" يمثل تحديًا للصورة التي يرى الناس أنفسهم عليها عند حضورهم للمهرجان. والقواعد تقضي بأن يبدأ العرض بمجرد دخول الناس للقاعة.
في "كان"، المداخل بالغة الضيق وتتسبب في تصادم الناس في دخولهم وخروجهم. في السنوات التي يسوء فيها الطقس، يكون ارتباك الناس في الأمطار حكمًا بالإعدام على ثياب السهرة الجميلة. في فينيسيا تنبهوا لهذه المشكلة وبنوا تندة ضخمة عند المدخل يقضي الناس تحتها ما شاء لهم من ساعات ليحدقوا في ثياب بعضهم البعض. لكن على الجانب الآخر، فقد تجاهلت إدارة "كان" أهمية وجود مساحة مفتوحة قريبة، لصالح النجاح في تكديس قصر الباليز الواقع بجوار الكروازيت، ما جعل هذا المشهد الأحمق متكررًا.

جينا لولوبريجيدا
هناك نقطة عادة ما تعزز من شعور الصحفيين بالتفوق، وهي اعتياد التحديق في عيني لولو بريجيدا، الصحفيون يستمتعون فعلا بتميزهم عن باقي الحاضرين في المهرجان، الذين قد يفعلون أي شيء كي يروا نجمهم المفضل. نحن الذين نعلم كم يحتاج الدين إلى هذا الاستعراضات الدرامية والطقوس المذهبية، نعرف أيضًا أين نجد الإله الحقيقي؛ ولذا، فهذه المظاهر تبعث فينا شعورًا بالازدراء والشفقة المندهشة أكثر من الشعور بالاشمئزاز أو التطهرية. ويرجع هذا لكوننا نعرف أنه عندما تنتهي الطقوس يعود كل شيء إلى أصله الرائع.
بعد منتصف الليل بنصف الساعة، نجد أنفسنا مجددًا في الكروازيت، وبعدها نتجمع في مجموعات صغيرة في البارات القريبة لنناقش الأفلام التي شاهدناها طوال اليوم بينما نشرب الليمونادة.
في الساعة التاسعة صباحًا، نسمع طرقات الباب مع دخول وجبة الإفطار التي تُبشر بشعائر اليوم الجديد.
بالإضافة للبرنامج الذي قمت بوصفه، هناك كذلك بعض الاحتفالات، بطبيعة الحال ثلاثة أو أربعة منهم جديرين بالذكر، اثنين منهم على قدر من الأهمية، وهما الرحلة إلى الجزر وتناول شوربة السمك الحارة مع عرض استربتيز تقليدي لنجمة العام الواقفة على الصخور. ثم هناك حفل الختام. الأمور الأخرى تأتي في حفلات الاستقبال التي تقيمها شركات يونيفرانس ويونتاليا، وأحيانا من اتحادات المنتجين المكسيكان أو الأسبان.
كل حفل استقبال من هؤلاء يخلق المزيد من الدراما الكافكاوية بين الصحفيين، عندما يهمل منظمو هذه الحفلات دعوة بعض المؤسسات الصحفية. هؤلاء المنعمين الذين وصلتهم الدعوات، يدَّعون السخط والغضب وينضمون للمنسيين في انتقاد سوء التنظيم الذي يتهمونه وحده بالمسؤولية عن تجاوز المنسيين. ولكن في السر، هم فخورون بأنهم من المختارين، هذه المرة على الأقل.
مثال لافت وقع في السنة الأولى من المهرجان، خلال حفل الاستقبال السوفييتي الذي لا يُنسى، عندما خرجت الدعوات - حرفيًا- من القبعات. صحيفة لو فيجارو تمكنت من الحصول على دعوة بينما أُسقط جورج سادول. يمكنك أن تتخيل إذن التفسيرات والتكهنات السياسية والدبلوماسية التي دارت طوال الظهيرة.
بينما من وجهة نظر طقوسية، فإن أهم طقس احتفالي هو عراك الزهور الذي يتوسط مدة المهرجان، فهو يمثل فرصة كبيرة للنقاد للاسترخاء خلال ظهيرة أحد أيام المهرجان، والهروب من مسؤوليات العمل. كما أنه يمثل تغيرّا واضحًا في الطقوس اليومية، وحتى يحل موعده تكون الاحتفاليات والعروض السينمائية في المهرجان ذات وتيرة هادئة نسبيًا.
لكن بحلول منتصف المهرجان تتسارع كل الأشياء فجأة، تبدأ العروض الخاصة، وكل من لم يتمكنوا من تخصيص أكثر من خمسة أيام أو أسبوع واحد لحضور المهرجان، يظهرون ويبدأون في المشاركة لأنهم يعلمون أن النصف الثاني من المهرجان هو الأكثر حيوية. وفي هذا الوقت فقط تكون هناك فرصة للصحفيين والكتاب ليعيشوا الجو الرهباني.
ويكفي قضاء 15 او 18 يومًا من هذا النظام كي يفقد أي ناقد باريسي حس الاتجاهات، أؤكد لكم. عندما يعود الواحد من هؤلاء إلى بيته وحياته اليومية العادية في العمل، يشعر انه عاد من مكان بعيد، وأنه قضى وقتًا طويلاً في عالم يحكمه النظام والدقة والانضباط.
إنه أقرب لمنتجع عطري تضطر فيه للعمل الجاد والمرهق، لكنه منتجع تأتي فيه السينما على حقيقتها. هو فرصة للتوحد الروحاني أكثر منه خبرة لبضعة محظوظين لديهم قدرة على المشاركة في حفل ماجن ضخم. أصداء يجدها العائد من المهرجان - مع بعض التشكك- على صفحات السيني موند Cinémonde أو باريس ماتش.

-توفى أندريه بازا بعد 3 سنوات من نشر هذه المقالة وقد شهد جميع مهرجانات فينيسيا، كان، لوكارنو، برلين، ولم يحضر مهرجان روتردام مع تنامي عدم استقلال المهرجانات عن منتجيه وصانعيه، كان شغف بازان واضحًا للعالم الطبيعي وبالحيوانات، كان منزله مليئًا بها من القطة حتى البطة، وحتى التماسيح في حوض الاستحمام وكان تأثير عالم الحفريات والفيلسوف الفرنسي تلار شاردان واضحًا عليه حتى أنه قال أنه قام بمعالجة السينما بطريقة مشابهة وبنظرته التطورية ، لقد شاهد الأفلام كما لو أنها حيوانات أسيرة، حتى أعطى لها كرامة الوجود والاستقلال في وصف هيكلها وقواعدها باعتبارها علم وفن -يتطور بعوامل روحية في الأساس-.

شوجي تيراياما: اليابان التي لا يعرفها أحد.. سحلية مختبئة في زجاجة كوكاكولا





في "الق بكتبك بعيدًا" يترك شوجي المجال لبطله لكي يُخاطب نفسه. يتحدث في افتتاحية العمل مع صوت واضح لشريط الفيلم الذي يدور، يبعث برسالة إلى من يسألون عن الدافع في عمل أفلام عن القذارة، المدمنون، الشوارع والأزقة التي ضرب فيها الزمن كل قتامته، عن المهمشين، والعجائز وأصحاب الصوت المستبعد.
"عندما فكرت في [فيلم] الق بكتبك بعيدًا ولنخرج إلى الشارع، كان هدفي هو تحويل المدينة إلى كتاب، عبر التخلي عن الكتب المطبوعة والتجول في الشارع، وبذلك يكون للكتاب معنى أكبر وأوسع"- شوجي تيراياما
مثل كتابة اقتباسات من بورخيس وماياكوفسكي على الحوائط، ذلك الفن (الجرافيتي) الذي يتابعه ويحبه التقدميون، ويراه المحافظون تشويهًا ويعدونه افتعالاً للأزمات. كذلك أفلام المخرج الياباني شوجي تيراياما Shūji Terayama، المولود في بلدة هيروساكي عام 1935؛ الذي جسد في أفلامه رؤى من أزمنة قديمة شكلتها حصيلة إدراكه لمخلفات النهضة اليابانية. تلك الرؤى، حاول تيراياما تجسيدها عبر عدة أوجه؛ فهو شاعر، مخرج مسرحي، روائي وصانع أفلام. بل عمل كذلك في عدة مهن مختلفة في وسائل الإعلام، كمُعلق ومُقدم تلفزيوني.
أحب همفري بوجارت، [رومان] بولانسكي، أوشيما وأنتونيوني. كذلك السينما سكوب، أحب السيد سوكيتا المصور، السيد تيراياما المخرج ومساعده السيد أوسوي، أحب هذا العالم، ولكني لا أحب السينما، وداعًا للسينما.
كانت هذه خاتمة هيداكي ساسكي بطل فيلم" الق بكتبك بعيدًا، ولنخرج إلى الشارع - 1971". عندما أفسح له تيراياما المجال أمام الكاميرا ليختم الفيلم كما بدأه؛ بلقطة يواجه فيها جمهور السينما مباشرة. وبين اللقطتين 42 يومًا استغرقها تصوير الفيلم.
في هاتين اللقطتين تبرز القدرة على استعارة تلك الخاصية المسرحية على شاشة السينما. ومثلما كان ساسكي بطل الفيلم يبحث عن عمل لوالده؛ فإن تيراياما فقد والده في عمر الـ11 عامًا في حرب المحيط الهاديء بأندونيسيا (خلال الحرب العالمية الثانية).

تجريبية تيراياما.. الكلمات لا تكفي

يحاول شوجّي تيراياما أن ينقل صورة ورسائل واضحة لمحبي ذلك العالم السينمائي الخاص، الذي توحد معه كثيرون، هو منهم. لكن الأهم من ذلك في تجربة هذا الأديب الذي لجأ للفن السابع كي يفصِّل مفردات عالمه؛ هو تمرده على الأساليب التقنية السائدة في حجم اللقطة والسرد المُنظم. بل أنه يحاول في كل مرة أن يقوم بعمل توليفات مختلفة في مشاهده المتتابعة، وفق ميزان قد لا يُعجب المعتادين على السينما الهوليوودية، أو حتى الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. إنه أحد المبدعين اليابانيين المثيرين للجدل، والأكثر انتاجًا خلال القرن الماضي. وأحد أصحاب النظرة التشاؤمية والتجريدية من الجانب النظري الأدبي، ومن الجانب الفني كذلك.
جاء تيراياما بسؤال مُعقد: "هل الكلمات كافية لتخبركم بما في داخلي؟" لذا كان لا بد من إيجاد وسيلة أخرى. كان تيراياما -إلى جانب كتابة الشعر والدراما المسرحية- مصورًا فوتوغرافيا. ولكن الصورة مهما كانت براعتها وحدتها؛ فهي محدودة الصدى والمجال والقدرة على التعليق.
سؤال آخر يعبر فيه المخرج الياباني عن موقف سياسي واضح: "هل تستحق بلدي كل هذا العناء؟ هل تستحق أن أموت من أجلها وهى مثل السحلية في زجاجة الكوكاكولا" تعبيرًا عن تصالح اليابان مع الهيمنة الأمريكية*.
في محاولاته لطرح إجابات لتلك التساؤلات، استخدم تيراياما في أفلامه وأعماله المسرحية التجريبية -على مسرح تينجو ساجيكي Tenjō Sajiki الذي قام بإنشائه- البنية الهشة للعاصمة طوكيو، التي تعتبر وطنًا لمجمعات التسوق، ومجرد موقع جذب سياحي. وطنًا للتحديث السطحي والابتذال؛ بدلًا من إعادة البناء.
هناك أمور فريدة من نوعها في أسلوب تيراياما السينمائي، أبرزها؛ أنه لا يعترف بالبناء الاعتيادي الذي يجعل الصورة مثل اللوح المتراصة، ولا يخلُد لنزعة الفن التشكيلي في اختياره للقطات والمشاهد. ففي فيلمه "الق بالكتب بعيدًا ولنخرج إلى الشارع" نجد أنه يلقي تمامًا بالكتب الأكاديمية المتعلقة بهذا الفن بعيدًا. بؤرة ومركز الاهتمام عنده في بعض المشاهد ملغيان تمامًا. قد يركض بالكاميرا خلف بطله، قد يجعل الكاميرا أيضًا تشعر بـ"دوخة" وتسقط. لا أهمية للمادة، بل إنه يلعب بالصورة كما لو أنه شاعر يلعب بكلماته المتمردة.
في أحد مشاهد فيلمه "باسترول هايد آند سيك - لعبة الغميضة (استغماية)"، الذي كان ربما أقل تجريبية ورمزية من أفلامه الأخرى؛ نجد فتاة يبدو عليها ملامح الهذيان والدهشة عند هضاب صفراء بلون باهت، وهي تروح وتجيء وتدور حول وردة حمراء وجدتها في تلك الصحراء. هنا ينتقل كل الاهتمام للشيء، للزهرة، وينصرف عن الفتاة ذات الحركة القلقة. لا أهمية لتفسير الرمزيات، لكن الأهم هو تسليط الضوء على كيفية استخدام "الرسام" لألوانه. لم يكن يرسم؛ لكنه كان مصورًا إبداعيًا، ووجد في الفيلم ملاذًا له مع انتقالات لطيفة تحكمها فواصل شعرية.
"لكي أرى أفضل علّي أن أشق أجفاني"
الموت في القرية- شوجي تيراياما

حصيلة الذكريات؟

في هذا الفيلم الذي أُنتج عام 1974، كان شوجي أكثر قربًا لجماهيره، وربما أكسبه هذا العمل صوتًا "حماسيًا" ابتعد قليلًا عن حاسته ونمطه التجريبي المعتاد.
يُفتتح الفيلم الذي يُدعى باسم آخر هو "الموت في القرية"، بأطفال يلعبون الاستغماية (الغمُيضة) مع نعيق الغربان في مقبرة، تجسيدًا لويلات عانتها اليابان من الحروب المتتابعة، كل هذا بالأبيض والأسود. ثم ينتقل لليابان "الملونة"، التي تحتفظ بتقاليدها القديمة في القرية. لكن الصبي يريد أن يهرب نحو المدينة.
استخدم المخرج الكثير من الرموز الميثولوجية -الخرافات القديمة- وربطها بالأساس الجديد الذي ارتكز عليه المجتمع الصناعي. ليبيّن حياة تلك القرية التي تمضي بلا انتظار؟ في تلك النوعيات الخاصة من الأعمال السينمائية لا تنتظر قصة أو ترابطًا. فمثلًا هل يستطيع الزوج إصلاح الساعة؟ لماذا يستمر الشاب في تتبع زوجة الجار حتى وهى نائمة في الحديقة؟ لم تستمر النساء العجائز في الحديث عن هوية الطفل الذي ولدته فتاة شابة دون زواج؟ أتكون مجرد مجموعة من الذكريات في عقل الشاب؟ أكان تيراياما يُجسد نفسه هنا؟
"لا تقرأ هذه الجرائد، اقرأ فقط الكتب الساخرة التي اشتريتها لك"، تقول الأم لابنها الذي يحدثها عن قضية نشرتها إحدى الصحف عن الختان: "لا تفكر في مثل هذه الأشياء، فكر فقط في عملك"، فيذهب ليُكلم أباه -المتوفي- عبر إحدى الكاهنات والتي تأمره بالطاعة، لكن الولد يقول: "لكي أرى أفضل علّي أن أشق أجفاني".
يقول شوجّي -الذي عاصر الغارات الجوية الأمريكية على مدينة ميساوا حيث كان يعيش مع أقاربه- على لسان الشاب الذي يُجسد دور مخرج الفيلم: "أشعر أنني كلما اعتمدت على صباي في هذا العمل، وكلما أردت أن أشرح؛ أزداد غموضًا. إنه أمر أشبه بحجر الرحى الذي استمر في الالتفاف حوله".
في أعمال أخرى كان من المهم أن يعود شوجي ليتحرر من ذاته، ويصطدم بمجتمعه من الداخل، لصالح ما يخلقه كصانع أفلام أو "كفنان"، بدلاً من أن يستمر في الالتفاف والدوران حول حجر الرحى. في أول فيلم قصير يخرجه "امبراطورية صلصة الطماطم"، استخدم تيراياما أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 5 إلى 10 سنوات، ليحكي من خلالهم قصة ثورة ضد سيطرة الكبار. واعتمد في هذه الأعمال المبكرة على الارتجال مع ممثليه.
في "الق بكتبك بعيدًا" يترك شوجي المجال لبطله لكي يُخاطب نفسه. شاب أحب الملاكمة وكرة القدم، ولم ينجح في أيهما. يتحدث في افتتاحية العمل مع صوت واضح لشريط الفيلم الذي يدور، يبعث برسالة إلى من يسألون عن الدافع في عمل أفلام عن القذارة، المدمنون، الشوارع والأزقة التي ضرب فيها الزمن كل قتامته، عن المهمشين، والعجائز وأصحاب الصوت المستبعد.
"التلعثم هو أيدولوجية"؛ مثلما كان أحد شخوص فيلم "الق يكتبك" يتلعثم، فإن اللغة السينمائية لدى شوجي تحمل نفس السمة. فهو ينتقل بأريحية من صورة إلى أخرى. وربما كان هذا العمل الأكثر اكتمالًا له، وتمثيلاً لأسلوبه الخاص. فهناك تفعيل واضح لتقنية التنقلات السريعة ما بين المشاهد، وتجوال حر بين المساحات المختلفة للتصوير والحركة الفوضوية والرسم بالألوان -حرفيًا- على مشاهد ثابتة أو شبه ثابته، باستخدام الحوائط، والأصوات. ما يعجز عن قوله بالكلمات يُقال هنا بهذه الأدوات البصرية والصوتية المختلفة.
ما يهم حقًا هو أن تتلقى أنت هذا العمل وتشاهده كمتشرد. أن تمتزج حقًا مع تلك الدوائر التي يدور العمل بين شخوصها، وتتبنى لا مبالاتها المطلقة بالزمن الذي يمضي، والشخوص التي يسرد عنها البطل بصوته وهو غير عابئ إلا بالوصف السطحي: "أبي مجرم حرب، أختي عاهرة تكره الرجال، بيتي مثل زريبة الخنازير".
تاكوما ناكاهيرا

مسرح مثير للقلق

أعاد شوجي تيراما تقديم أوبرا- مسرحية "معجزة الماندرين" المجرية لبيلا بارتوك، لينقد من خلالها النظام الاجتماعي/ الأسرى الياباني، على مسرحه الذي أنشأه في منتصف الستينيات.
وهو عمل عن فتاة تغوي المارة من أجل المال، في بلدة كان أغلبها من الصعاليك، وحين يأتي أحد التجار الصينين الأثرياء، يهاجمه الصعاليك ويجردوه من أمواله والأشياء الثمينة التي لديه. ومع ذلك يستمر الصيني في التمسك بالفتاة، ويستمر الصعاليك في مهاجمته، بينما يستمر هو بالتحديق فيها بينما ينزف ويموت متأثرًا بجراحه.
كذلك أعاد تيرياما تقديم أوبرا "قلعة بلوبيرد". وبلوبيرد هو سيد القلعة، الذي قد يُمثل الأب في بعض الروايات أوالزوج لثلاثة نساء -طبقًا للعمل الأصلي الذي كتبه شارل بيرو في 1697، ترجمها وقدمها شوجي تراياما بشكلٍ مختلف تمامًا، وربما مُنَاقِض، لما قُدمت عليه من قبل. تراياما لم يهتم بطرح صورة القيود الذكورية؛ بل على العكس، طرح المسرحية المستمدة من الحكاية التراثية "ذي اللحية الزرقاء"، بصورة تُمثل غياب الحماية الذكورية و غياب القمع.
فهنا الفتاة "جوديث" التي تأمل في الزواج من بلوبيرد، تجده غائبًا وغير موجود، ثم تبحث عن شقيقها المفقود منذ عدة سنوات وتعرف في النهاية أنه قد مات. تخطو الفتاة إلى المسرح لتلعب دورًا مرسومًا كإحدى زوجات بلوبيرد لإرضاء خيالها. وتموت عندما تهب الحياة لطفلها وتصبح أمًا. تأبى الفتاة أن تكون زوجة منعّمة تحت وصاية زوج/ أب مسيطر، ويحصدها الموت في الطريق لحلمها بأن تصبح أمًا عاملة ومسيطرة على ابنها، مع زيجة سعيدة.

الاتجاه التخريبي في الفن الياباني بعد تيراياما

تاكوما ناكاهيرا
سينتهي الفيلم قريبًا ولن يتذكرني أحد، وعندما ينتهي ستكون هناك فقط الشاشة البيضاء، من الذي قال بأن أي شخص يمكنه أن يصبح نجمًا عالميًا في 15 دقيقة؟ فقط في هذه الشاشة الفارغة سوف أغني ... هل لديك الشجاعة أن تخرجي من تلك الزجاجة يا يابان، هل لديك الشجاعة؟
ترك شوجي تيراياما أثرًا عميقًا في أوساط المثقفين "السينمائيين والمسرحيين" في اليابان، خاصة في نهايات القرن الماضي، مع الرسام تادانوري يوكو على المسرح الثوري تينجي ساييكي، مطلقًا اتجاه جديدًا أثار القلق عند التقليديين، مما قد يفسر قلة الترجمات للمسرحيات التي كتبها.
يقول الفوتوغرافي تاكوما ناكاهيرا الذي توفي في ديسمبر من عام 2015: "عملت مع شوجي، وكنت أسعى لاختبار قدرتي على التقاط صور تُحرض على التفكير النقدي. كانت هناك فكرة عن القيام بمزج ما بين السينما والتصوير والهندسة المعمارية والخطاب النقدي. كان هناك الكثير من الرجعية والعنف في الدولة الرأسمالية بعد الاضطرابات التي حدثت في جميع أنحاء العالم عام 1968، وكان ينبغي علينا توثيق ذلك. لكن بالنسبة لي؛ لم أقم فقط بالتقاط الصور لغرض الاستفزاز؛ بل باعتبار هذا العمل محاولة تجريبية لصياغة نمط جديد في التصوير الفوتوغرافي".
تيراياما الذي تُوفِّي في العاصمة طوكيو 1983، واجهت أعماله رفضًا كبيرًا سواء في حياته أو بعدها انقضائها من قبل أصحاب النزعة المحافظة، على الصعيدين السياسي والثقافي.
ومع ذلك كان من الصعب إعادة تجربة شوجي خارج اليابان، لما تتضمنه أعماله من خصوصية كبيرة لمعطيات عصره، وارتباطها بالحضارة اليابانية والبناء الثقافي المحلي. وينطبق الأمر نفسه على مخرجين آخرين مثل ماساكي كوباياشي الذي توفى عام 1996، وعالج موضوعات مشابهة لتيراياما، لكن بنمط إعادة إنتاج الماضي. بينما لامس تيراياما الواقع "الحاضر، الآن"، واصطدم به. وليس هناك دليل على ذلك أدق من قيام تيراياما في فكرة فانتازية تمامًا بإعادة بطل فيلم "الموت في القرية" للقاء ومواجهة نفسه في الماضي وهو طفل، في إلغاء تام لفكرة الزمن، وفي تجسيد قوي للأزمة الذاتية/ الوطنية في أعماله .

(*) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة دول المحور "اليابان وألمانيا وإيطاليا"، يستمر التواجد العسكري الأمريكي في اليابان بقوة خاصة. وظلت اليابان تابعة "للكتلة الغربية" التي تقودها الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، التي انتهت في مطلع التسعينات. وأخرج تيراياما أفلامه خلال تلك الفترة التي كانت فيها اليابان تابعة للولايات المتحدة.