2020

Tuesday, 29 December 2020

فيديريكو فيليني.. طفل يرسم على الشاشة


 

في 20 يناير 1920 ولد المخرج الإيطالي الكبير فيديريكو فيليني، وجاء في عهد مختلف من السينما لكنه كان مبتكراً وتجرأ على الموجود ليصنع تجربة سينمائية بعيدة عن الأعراف والقوالب.


خلق فيليني عالماً سحرياً، ورغم أن الكثير من النقاد لم يعطوه حقه كاملاً كونه ليس ابناً بالكامل للموجات الجديدة التي ظهرت في عصره وحتى الثمانينات من القرن الماضي والتي نالت صيتاً أكبر لكنه خلق تجربة مغايرة تماماً.


"ليست ذاكرتي هي التي تهيمن على أفلامي كما يقال..القول بأن أفلامي مجرد سيرة ذاتية هو تعسف".


ركز فيليني على موضوعات كثيرة: الطفولة، تكوين الشخصية، الحنين إلى الماضي، الأحلام التي تصيب الرجل في مراحل مختلفة من حياته، الذكريات.


وكان فيليني متطرفاً في الجنوح إلى جعل صورة أفلامه ممتعة في سردها إلى درجة دخول الكثير من النكات بها، سواءاً لفظية أو شكلية، ذكية كانت أو غبية، متجاوزة أو لطيفة.


"لا يوجد شيء مُعين في أفلامي..كل ما أعرفه عندما أصنع فيلماً أنني أريد أن أحكي، ورواية القصص هي اللعبة الوحيدة التي تستحق اللعب..إنها لعبة بالنسبة لي ولخيالي ولطبيعتي، وله ضرورتها الخاصة".

شاشة العرض أشبه بسيرك كبير



ولد فيليني في 20 يناير في مدينة ريميني في إيطاليا..عندما كان في الثانية عشرة من عمره هرب من منزل العائلة للذهاب إلى السيرك، وربما يفسر ذلك حبه للمهرجين وظهورهم في عدد من أفلامه.


وفي سن السابعة عشر غادر مدينة ريميني وذهب إلى روما وعاش في البداية كـ رسام كاريكاتير ثم عمل ككاتب نصوص لمؤتمرات وفنانين آخرين.


تزوج فيليني من الممثلة جوليتا ماسينا وتعرف على روسيليني الذي تشارك معه ككاتب سيناريو ومساعد مخرج في تأسيس مجموعة من الأفلام التي أطلق عليها لقب الواقعية الجديدة، قبل أن يقدم فيلمه الأول عام 1951 باسم "الشيخ الأبيض".


لم ينجح ظهوره الأولى في إحداث شيء مثير للاهتمام أو مؤثر وكانت تعليقات النقاد سلبية وتم سحب الفيلم من كل دور العرض فوراً، ورغم عدم جاذبية الممثل ألبيرتو سوردي، أصر فيليني على أن يكون بطل فيلمه الثاني.

روح فيديريكو .. شخصيات حقيقية يعوزها الخيال

الأماكن التي أحب فيليني التصوير بها كانت مليئة بالرحابة، ولكنها أماكن مُلغزة ، الشوارع والساحات والأزقة الليلية ذات الإضاءة الخافتة، والمساح في الأحياء ودور السينما القديمة المتهالكة والشواطيء المهجورة.


كان يرى فيليني في أماكنه تلك ساحة حقيقية للمعجزات، بها أنفاس الخيال..غير محدودة ولكنها بنفس الوقت غامضة وساكنة تماماً.


نجح فيلم فيليني الثاني "فيتيلوني" وحصل على جائزة في مهرجان فينيسا. وكان فيلماً عاد به إلى ذكرياته في ريميني..حيث ليالي الشتاء والضباب..نكات الأصدقاء الغبية والترقب للصيف.. لم يكن فيديريكو يحب أن يصور الواقع فحسب..بل يريد بناء عالم خيالي يخصه وحده من عنصرين : الظلال والضوء.





ولذلك كان فيلم لا سترادا نموذجاً فيما أرد فيليني صناعته بوجود ممثل بقيمة أنتوني كوين ، فيلم قوي وحبكة مميزة ومليء بجو الأروح والأشباح، نعم هي شخصيات حقيقية وطبيعية تماماً، ولكن تكتسب الخيال في لحظات المخرج المكثفة مشاعرياً وإنسانياً.


كان فيلماً يرمز إلى الاحتفال، أنتوني كوين غجري بدائي وعنيف يقدم عروضاً في عد من الساحات مقابل القليل من المال ومعه جيلسومينا الساذجة والحساسة..يتجولان ويسيران في الشوارع المتربة والبؤس الذي لا يصدق..لكن ذلك الدور الفريد الذي قامت به جولياتا ماسينا حول اللا مبالاة والقسوة إلى حياة تنبض على الشاشة وتتعارك معها.


ثم تلاه فيلم "إل بيدوني" والذي يظهر فيه عالم المحتالين والمكر، وقدرتهم على القيام بعملهم دون إراقة الدماء، وكان فيلماً مُفضلاً لدى فيليني رغم عدم شعبيته.

العالم الحلو والمُعقد 



أما فيلم لا نوتي دي كابيريا فكان العمل الذي انتظر فيليني 10 سنوات حتى يراه في النور..حيث جرى العمل مع عدد من عمالقة الإنتاج في ذلك الوقت للدخول إلى عالم النوادي الليلية..وكانت كابيريا هي تلك العاهرة الفقيرة والتي بملامحها براءة عجيبة وهشاشة لا مثيل لها، لم تكن محظوظة في حياتها.. وأرادت الخروج من ذلك الروث.


حاول صديق لها قتلها من أجل الحصول على مالها بعد أن وعدها بالزواج..سخر منها زملائها في ذلك العالم الرخو، لقد انخدعت كابيريا بالغرور الأسطوري لحبيبها، حتى أنها كانت تصلي من أجل حدوث معجزة  تغير مصيرها، ابتسامتها المسالمة في تقبل مصيرها وحلمها الدائم بعالم أفضل..كأنها ترفض أن تكف عن السير في طريق غير معقول يعدها بجائزة على إحباطاتها.


أما فيلم "حياة حلوة" فكان الأنجح تجارياً ولكن واكبه انتقادات قاسية من النقاد ووصفوه بأنه يحرض على الفجور، وتم الطعن على الفيلم من قبل الأجهزة الرسمية ووصلت القضية إلى البرلمان، وحتى أصبح الفيلم قضية عامة تراجع دور النقاد.



كثيرة كانت أفلام فيليني المؤثرة والتي صنعت خيالاً خصباً حتى في عقل المشاهد، وكان فيلم 8 ونصف هو العمل الذي يقال بأنه الأقرب للسيرة الذاتية لحياته، والذي كان به إنتاج كبير واستثمارات ضخمة، كما تزين العمل بموسيقى نينو روتا المذهلة.


كانت موسيقى نينو روتا مرافقة لفيليني، وتلعب دوراً فجأة لتدخل في مسار الأحداث بصمت وخفة، في عالم المهرجين والراهبات والمواطنين العاديين القلقين ورجال السيرك والترفية وكل شيء آخر يمكن للمرء أن يتخيله..ببساطة فيليني أراد بعدسته الفضولية كطفل أن يواصل الوثب من مكان إلى آخر، يتعمق في الأشياء بروح خفيفة ولكنها مليئة بالأفكار الحرة التي لا تصيدها شباك..كان عالماً معقداً، وحلواً في الوقت ذاته.