المهرجانات السينمائية كطقس ديني
يفد الكتاب "نقادًا وصحفيين" من أنحاء العالم لقضاء أسبوعين، يعيشون فيهما حياة مناقضة تمامًا لحياتهم المهنية والشخصية اليومية.
أندريه بازا، ناقد سينمائي فرنسي، ولد في أبريل/ نيسان 1918 وتوفى في نوفمبر 1958. طوَّر الكثير من النظريات السينمائية والخاصة "بالفيلم"، كان واحدًا ممن قاموا بالكتابة في مجلة كراسات السينما الفرنسية الشهيرة في خمسينيات القرن الماضي. وله عشرات الكتب النقدية، من أهمها كتاب "ما هي السينما" وكتابيه عن جان رنوار وأورسون ويلز وكتاب سينما القسوة "من بونويل وحتى هيشتكوك". وأهدى المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو فيلم 400 ضربة إلى روحه.
بالنظر للأمر من الخارج، يبدو لي أن المهرجانات كانت دائمًا مثالاً صارخًا للدنيوية. ولكن بالنسبة لمحترفي المهرجانات من النقاد والكتاب، فإنه ليس هناك أكثر جدية و"أقل دنيوية"مما يُمكن أن يّرى في مهرجان كان.
وباعتباري شهدت كافة دورات كان منذ نشأته في 1946، فأنا شاهد على عملية الإتقان المتنامية لظاهرة "المهرجانية"، والطقوس والإجراءات التي وُضعت، وإنشاء الهيراركية "التراتبية الهرمية" في أروقته. وبمقارنة تاريخية، تذكرني هذه التراتبية بتأسيس الجماعات الدينية، فالانخراط التام في المهرجان يبدو وكأنه انقطاع للعبادة في دير. فالقصر العالي في "لا كروازيت" لا يقل عن كونه ديرًا معاصرًا مخصصًا لصناع السينما.
قد يظن البعض بأنني أحاول أن أكون مثيرًا للارتباك والتناقض، لكن هذا بعيد جدًا عن حقيقة الأمر، هذه المقارنة طرقت ذهني في نهاية 17 يومًا من النُسُك والعزلة والحياة المنظمة بالكامل. فإن كانت الجماعة الدينية تُعرف بقواعدها الخاصة والتزامها بحياة من التأمل والتفكُّر، حيث ينضم الناس للعبادة المقدسة لواقع فوقي متجاوز، إذن؛ فالمهرجان هو تنظيم ديني.
يفد الكتاب "نقادًا وصحفيين" من أنحاء العالم لقضاء أسبوعين، يعيشون فيهما حياة مناقضة تمامًا لحياتهم المهنية والشخصية اليومية.
بداية؛ يأتي الكتاب كـ"مدوعوين" يُمنحون شعورًا بالراحة لا يخلو من التقشف، فالقصور محجوزة لأعضاء لجنة التحكيم والنجوم والمنتجين. هم يعايشون درجة من الفخامة مناسبة تمامًا للعمل الذي يتعين عليهم القيام به. وأنا أرحب تماما بالتخلي عن غرفتي الفندقية لصالح صومعة في أي دير، دون الفراش الخشبي بالطبع! وعلى ذكر الفراش الخشبي، المخرج لويس بونويل عضو لجنة التحكيم في دورة المهرجان المقامة عام 1954، لم يتردد في استبدال فراشه الوثير في الكارلتون، ويضع مكانه منضدة خشبية اعتاد النوم عليها.
السمة الرئيسية في حياة المهرجان تكمن في الالتزام الأخلاقي وانتظام جميع أنشطته. يستيقظ الصحفيون في حوالي التاسعة صباحًا. الطقوس اليومية تحضر مع وجبة الإفطار في شكل نشرتين للمهرجان، هما دوريتا سينماتو وفيلم فرانسيه، وهما تحويان جداول عروض اليوم الممتد حتى حفلات متأخرة "ماتينيه"، وحفلات أكثر تأخيرًا قد تصل لفجر اليوم اليوم التالي، بالإضافة طبعًا للحفلات المسائية "سواريه".
فتصبح الوجبة الثانية وكأنها وجبة إفطار "كسر الصيام"، ويتأخر العشاء 200 عام. بينما أصبحت حفلات الماتينية تعرض قبل دخول المساء، بينما الحفلات المسائية "سواريه" تمتد حتى مطلع النهار. ومهما تأخر الوقت الذي يخلد فيه المشاركون في المهرجان إلى فراشهم، عليهم أن يستيقظوا في الفجر، والفجر هنا هو الاسم الذي نطلقه على العرض الخاص الذي يجري في العاشرة والنصف صباحًا.
تقام هذه الصلاة في إحدى كنائس "دور عرض" المدينة. وعلى الصحفي أن يعود بعدها إلى الكنيسة الأم للحصول على الدوسيه الاحتفالي من المكتب الصحفي، ويضم النشرات الصحفية والدعائية للأفلام المعروضة، والمقالات المنشورة عن فعاليات اليوم، والدعوات التي لم تُرسل مباشرة إلى الصحفيين في فنادقهم. صارت الساعة الآن 12.5 ظهرًا، وقت مؤتمر صحفي معتاد سيقدم لنا موضوعات يمكننا أن نتناقش فيها خلال وجبة الغداء المتأخرة، وفي الثالثة يأتي موعدنا مع الحركة من جديد في اتجاه القصر البازيليكي حيث يعرض فيلم الظهيرة.
ولأن طقوس الصلاة المسائية لا يمكن التعويل عليها، سأصف لك الإجراءات الليلية في "كان". تخرج في السادسة مساءً، الصحفيون العاملون في الطبعات الصباحية يبدأون العمل على تقاريرهم التي سيملونها تليفونيًا للصحف بحلول الثامنة مساءً، العاملون في الطبعات المسائية طبعًا أكثر استرخاءً، ويتجهون لحفلات الكوكتيل التي تبدأ في السادسة والنصف. ثم يأتي العشاء في الثامنة والنصف ليطلق أهم احتفالية: اختر ما يحلو لك. لكن أوامر المهرجان صارمة فيما يتعلق بكود الملابس خلال قداسه الليلي، على الأقل.
لقد بلغت من العمر من يجعلني شاهدًا على بداية تأسيس هذه الطقوس، وما يجعلني أحد من طُبقِّت عليهم هذه الإجراءات. في الدورات الأولى لمهرجاني "كان" وفينيسيا، لم تكن قد وضعت القواعد بهذه الصرامة. وكانت تعج بالصحفيين الشبان، وببعض أبناء الطبقات العاملة، ينظرون للأسفل وهم يتناولون الغذاء بستراتهم المتواضعة، وربما تسبب لهم رؤية بدلة داكنة الكثير من المشاكل.
لكني رأيتهم يتخلون عن كل هذا الانطلاق بمرور السنوات، واحدة تلو الأخرى. في البداية كانت هناك سنة داروا فيها على أصدقائهم لاقتراض بدلة سهرة قديمة، لكنهم استسلموا وأعلنوا القسم. واليوم صار العاملون في المؤسسات الصحفية الـ17 التي تأتي لتغطية المهرجان، يرتدون جميعهم الثياب الرسمية، ويبدو وكأن هذا هو الطبيعي. بشكل شخصي، ولا أرى في ذلك أي حرج، فإن هذه البذلات الرسمية كانت تبدو جيدة عليّ، خاصة البيضاء منها، رغم أن رابطة العنق على شكل الفراشة دائمًا ما تشعرني بالفشل عند التعامل معها.
لكن الثياب لا تصنع الرجال، كما أن العضوية في هذا التنظيم المهرجاني، صارت تتأكد ببطاقات تصدرها ماكينة تمنحك كارتًا يتيح لك الدخول. وبمجرد أن تدلف لتلك الأرض المقدسة، تبدأ هيراركية جديدة، يمكن أن ندعوها بالتمييز الفعّال. الصحفيين يحجزون المقاعد بين الصفين السادس والعاشر من مقاعد الأوركسترا.
ولو أنك تركتهم لأنفسهم دون تحديد، فستأخذهم أقدامهم للمواضع نفسها بحكم خبرتهم. لن يقتربوا من الشُرفة "البلكون"، وهي بعيدة جدًا عن الشاشة، ومناسبة تمامًا لأعضاء لجنة التحكيم والنجوم. ورغم ذلك، كل العيون تتجه للبلكون، فتصميم القصر الذي يُعقد به مهرجان "كان" يمثل تحديًا للصورة التي يرى الناس أنفسهم عليها عند حضورهم للمهرجان. والقواعد تقضي بأن يبدأ العرض بمجرد دخول الناس للقاعة.
في "كان"، المداخل بالغة الضيق وتتسبب في تصادم الناس في دخولهم وخروجهم. في السنوات التي يسوء فيها الطقس، يكون ارتباك الناس في الأمطار حكمًا بالإعدام على ثياب السهرة الجميلة. في فينيسيا تنبهوا لهذه المشكلة وبنوا تندة ضخمة عند المدخل يقضي الناس تحتها ما شاء لهم من ساعات ليحدقوا في ثياب بعضهم البعض. لكن على الجانب الآخر، فقد تجاهلت إدارة "كان" أهمية وجود مساحة مفتوحة قريبة، لصالح النجاح في تكديس قصر الباليز الواقع بجوار الكروازيت، ما جعل هذا المشهد الأحمق متكررًا.
هناك نقطة عادة ما تعزز من شعور الصحفيين بالتفوق، وهي اعتياد التحديق في عيني لولو بريجيدا، الصحفيون يستمتعون فعلا بتميزهم عن باقي الحاضرين في المهرجان، الذين قد يفعلون أي شيء كي يروا نجمهم المفضل. نحن الذين نعلم كم يحتاج الدين إلى هذا الاستعراضات الدرامية والطقوس المذهبية، نعرف أيضًا أين نجد الإله الحقيقي؛ ولذا، فهذه المظاهر تبعث فينا شعورًا بالازدراء والشفقة المندهشة أكثر من الشعور بالاشمئزاز أو التطهرية. ويرجع هذا لكوننا نعرف أنه عندما تنتهي الطقوس يعود كل شيء إلى أصله الرائع.
بعد منتصف الليل بنصف الساعة، نجد أنفسنا مجددًا في الكروازيت، وبعدها نتجمع في مجموعات صغيرة في البارات القريبة لنناقش الأفلام التي شاهدناها طوال اليوم بينما نشرب الليمونادة.
في الساعة التاسعة صباحًا، نسمع طرقات الباب مع دخول وجبة الإفطار التي تُبشر بشعائر اليوم الجديد.
بالإضافة للبرنامج الذي قمت بوصفه، هناك كذلك بعض الاحتفالات، بطبيعة الحال ثلاثة أو أربعة منهم جديرين بالذكر، اثنين منهم على قدر من الأهمية، وهما الرحلة إلى الجزر وتناول شوربة السمك الحارة مع عرض استربتيز تقليدي لنجمة العام الواقفة على الصخور. ثم هناك حفل الختام. الأمور الأخرى تأتي في حفلات الاستقبال التي تقيمها شركات يونيفرانس ويونتاليا، وأحيانا من اتحادات المنتجين المكسيكان أو الأسبان.
بالإضافة للبرنامج الذي قمت بوصفه، هناك كذلك بعض الاحتفالات، بطبيعة الحال ثلاثة أو أربعة منهم جديرين بالذكر، اثنين منهم على قدر من الأهمية، وهما الرحلة إلى الجزر وتناول شوربة السمك الحارة مع عرض استربتيز تقليدي لنجمة العام الواقفة على الصخور. ثم هناك حفل الختام. الأمور الأخرى تأتي في حفلات الاستقبال التي تقيمها شركات يونيفرانس ويونتاليا، وأحيانا من اتحادات المنتجين المكسيكان أو الأسبان.
كل حفل استقبال من هؤلاء يخلق المزيد من الدراما الكافكاوية بين الصحفيين، عندما يهمل منظمو هذه الحفلات دعوة بعض المؤسسات الصحفية. هؤلاء المنعمين الذين وصلتهم الدعوات، يدَّعون السخط والغضب وينضمون للمنسيين في انتقاد سوء التنظيم الذي يتهمونه وحده بالمسؤولية عن تجاوز المنسيين. ولكن في السر، هم فخورون بأنهم من المختارين، هذه المرة على الأقل.
مثال لافت وقع في السنة الأولى من المهرجان، خلال حفل الاستقبال السوفييتي الذي لا يُنسى، عندما خرجت الدعوات - حرفيًا- من القبعات. صحيفة لو فيجارو تمكنت من الحصول على دعوة بينما أُسقط جورج سادول. يمكنك أن تتخيل إذن التفسيرات والتكهنات السياسية والدبلوماسية التي دارت طوال الظهيرة.
بينما من وجهة نظر طقوسية، فإن أهم طقس احتفالي هو عراك الزهور الذي يتوسط مدة المهرجان، فهو يمثل فرصة كبيرة للنقاد للاسترخاء خلال ظهيرة أحد أيام المهرجان، والهروب من مسؤوليات العمل. كما أنه يمثل تغيرّا واضحًا في الطقوس اليومية، وحتى يحل موعده تكون الاحتفاليات والعروض السينمائية في المهرجان ذات وتيرة هادئة نسبيًا.
لكن بحلول منتصف المهرجان تتسارع كل الأشياء فجأة، تبدأ العروض الخاصة، وكل من لم يتمكنوا من تخصيص أكثر من خمسة أيام أو أسبوع واحد لحضور المهرجان، يظهرون ويبدأون في المشاركة لأنهم يعلمون أن النصف الثاني من المهرجان هو الأكثر حيوية. وفي هذا الوقت فقط تكون هناك فرصة للصحفيين والكتاب ليعيشوا الجو الرهباني.
ويكفي قضاء 15 او 18 يومًا من هذا النظام كي يفقد أي ناقد باريسي حس الاتجاهات، أؤكد لكم. عندما يعود الواحد من هؤلاء إلى بيته وحياته اليومية العادية في العمل، يشعر انه عاد من مكان بعيد، وأنه قضى وقتًا طويلاً في عالم يحكمه النظام والدقة والانضباط.
إنه أقرب لمنتجع عطري تضطر فيه للعمل الجاد والمرهق، لكنه منتجع تأتي فيه السينما على حقيقتها. هو فرصة للتوحد الروحاني أكثر منه خبرة لبضعة محظوظين لديهم قدرة على المشاركة في حفل ماجن ضخم. أصداء يجدها العائد من المهرجان - مع بعض التشكك- على صفحات السيني موند Cinémonde أو باريس ماتش.
-توفى أندريه بازا بعد 3 سنوات من نشر هذه المقالة وقد شهد جميع مهرجانات فينيسيا، كان، لوكارنو، برلين، ولم يحضر مهرجان روتردام مع تنامي عدم استقلال المهرجانات عن منتجيه وصانعيه، كان شغف بازان واضحًا للعالم الطبيعي وبالحيوانات، كان منزله مليئًا بها من القطة حتى البطة، وحتى التماسيح في حوض الاستحمام وكان تأثير عالم الحفريات والفيلسوف الفرنسي تلار شاردان واضحًا عليه حتى أنه قال أنه قام بمعالجة السينما بطريقة مشابهة وبنظرته التطورية ، لقد شاهد الأفلام كما لو أنها حيوانات أسيرة، حتى أعطى لها كرامة الوجود والاستقلال في وصف هيكلها وقواعدها باعتبارها علم وفن -يتطور بعوامل روحية في الأساس-.