"في الدفاع عن روسيليني" - من أندريه بازان إلى سينما نوفو ( الريف في نابولي وانجريد بيرجمان)
رسالة مفتوحة إلى رئيس تحرير مجلة "سينما نوفو" أغسطس 1955.
إلى جويدو آريستاركو.
لقد انتظرت شهورًا طويلة لكتابة هذه التعليقات إليك. في الحقيقة كنت مترددًا شهر بعد شهر وكنت أقوم بتأجيل ذلك لإدراكي لأهمية المشكلة وتداعياتها، كما أنني على علم بأنني افتقر للإعداد النظري مقارنة بالجدية والشمولية التي هي عند النقاد الإيطاليين الذين يدرسون الواقعية الجديدة بالعمق اللازم علمًا بأنني كنت من أشد المرحبين بمدرسة الواقعية الجديدة في السينما منذ وصولها إلى فرنسا وكرست نفسي واهتمامي بها ولكنني لا أستطيع أن أدعي بأن لديّ نظرية ورؤية متماسكة وشاملة لمنافسة النظرية والإعداد الذي قمت به من أجلها، كما أنني سأكون في غاية السخافة لو ظننت أنني لديّ القدرة على الإلمام بهذه الظاهرة الجديدة التي تتناغم مع تاريخ الثقافة الإيطالية، ليس مثل قدرتك ولن اكون في موضع المُرشد للإيطاليين فيما يخص سينماهم!، وهذا حقيقة سبب تأخري في الرد على دعوتك لي في عملية دراسة الموقف الذين اتخذتموه أنت وحركتك على صفحات المجلة فيما يخص بعض الأفلام الاخيرة.
أود أن أذكرك قبل الوصول إلى قلب النقاش أن اختلاف الرأي بين نُقاد من بلدين مختلفين من نفس الجيل هو أمر ليس بالغريب فنحن في "كراسات السينما" على سبيل المثال مررنا بهذه التجربة من قبل، فلا أخجل من الاعتراف بأنني لم أتصور على الإطلاق أن يحصل فيلم "كاسكوي دور" للمخرج الفرنسي جاكيوس بيكار على كل هذا التقدير من لندساي أندرسون (وفيلم بيكار كان قد فشل في فرنسا في 1952) مما دعاني إلى إعادة النظر في وجهة نظري ورؤية الفضائل التي لم ألحظها في فيلمه.
صحيح أن حكم الأجنبي على عمل قد يكون مُضللًا بعض الشيء بسبب أنه لا يألف السياق الذي يأتي منه الفيلم، فعلى سبيل المثال فإن نجاح أفلام دوفيفيير أو بانيول خارج فرنسا راجع لسوء الفهم، النقاد الأجانب أعجبوا بها لأنها تُقدم صورة "نموذجية ورائعة لفرنسا" وقد أثرت عليهم هذه الصورة الغرائبية والغير معقولة في تقييمهم الحقيقي لهذه الأعمال، أدرك أن هناك بعض الاختلافات وأفترض كذلك أن نجاح بعض الأفلام الإيطالية في الخارج والتي ربما تقيمها بمستوى أقل أو بتقدير منخفض يستند على نفس النوع من سوء الفهم ولكن لا أعتقد أن هذا ينطبق على الأفلام التي سببت الخلاف بيننا، ولا حتى ينطبق على الواقعية الجديدة بشكلٍ عام.
لنبدأ بأن أقول إذا سمحت لي بأن النقاد الفرنسيين لم يكونوا خاطئين في تحمسهم الزائد مُقارنة بالنقاد الإيطاليين للأفلام التي تعتبر اليوم هى مجد السينما الإيطالية سواء عندكم أو في جبال الألب، من جهتي فسوف أتملق نفسي بأن أقول بأنني واحد من عدد قليل من النقاد الفرنسيين في هذا التحمس الزائد لهذه الحركة، وكنت دومًا أربط الولادة الجديدة للسينما الإيطالية بـ"الواقعية الجديدة" حتى في الأوقات الذي لم يكن لهذا المصطلح معنى مشهور أو متداول، وفي هذا الوقت ما زلت أرى بأن هذه الحركة هى أفضل وأبدع ما أخرجت السينما الإيطالية، ولكن لنفس السبب فأنا منزعج من الطريقة التي دافعت بها عنها.
لذا دعني أجرؤ على القول عزيز آريستاركو بأن الخط القاسي الذي تبنته مجلتك ضد بعض النزعات في الواقعية الجديدة ينبغي أن تتخلى عنها فهى تدفعني للخوف بأنك تقوم بوضع السكين على ما هو أكثر شيء حيوي وغني في السينما الخاصة بكم، أنا مُحدد بما فيه الكفاية فيما يتعلق بالجوانب التي تعجبني في سينماكم، ولكنك قمت بتمرير بعض الأحكام القاسية التي أنا على استعداد لقبولها: أنت إيطالي، أستطيع أن أفهم لماذا نجاح فيلمي لويجي كومينشيني و"الخبز والحب والأحلام" قد أزعجك، فرد فعلك يشبه ما شعرنا به تجاه أفلام دوفيغيير خارج باريس، ولكن من ناحية أخرى، عندما أجدك تبحث عن البراغيث في شعر "جيلسمونيا" الأشعث في "لاسترادا"فيليني أو رفضك للفيلم الأخير لروسيليني أجدني مُجبر على استنتاج بأنك تقوم بعملية وأد لأكثر أفرع النظرية حيوية، تلك الأفرع الواعدة في الواقعية الجديدة.
أنت تقول لي بأنك مندهش من النجاح النسبي لـ "رحلة إلى إيطاليا" لروسيليني في باريس وهذا الحماس وشبه الإجماع من النقاد الفرنسيين عليه، كما حدث مع فيلم "لاسترادا"، وانت تدرك تمامّا أن هذين الفيلمين جاءا في اللحظة المناسبة لاستعادة سينماكم للتأثير ليس فقط على عامة الناس ولكن للتقدير واحترام المثقفين وشد انتباهم للسينما الإيطالية التر تراجعت في آخر عامين، وأسباب نجاحهما مختلفة ومتعددة، وبعيدًا عن أنهما أنهوا القطيعة والانحدار في تقييم الأعمال القادمة من إيطاليا، فقد تركوا فينا الشعور بالإبداع الخلاق المستمد مباشرة من روح المدرسة والثقافة الإيطالية، وسأحاول أن أقول لك لماذا.
ولكن أولًا لا بد لي من الاعتراف بأن أكثر ما لا يعجبني في نواة النظرية الخاصة بك فيما يتعلق بالواقعية الجديدة هو التركيز فقط على جوانب الحاضر وفقط، وفرض قيود مسبقة على ما يُمكن أن تتركه القصة من احتمالات للمستقبل، ربما لم يعجبني هذا كفاية لأنني ليس لديّ ما يكفي من دراستك للنظرية، ولكن ما أفهمه أنني أفضل السماح للفن بأن يترك على حريته وطبيعته، ففي الفترات العقيمة في حياة المجتمعات فإن الواقعية قد تكون مصدر مُثمر لتحليل أسباب الاضمحلال، ويُمكن أن تُساعد على فهم الظروف التي ينبغي أن تخلق لتحقيق نهضة ما، لدينا ولحسن الحظ هذا الإزدهار الرائع في السينما الإيطالية خلال العشر سنوات الماضية، وليس هناك ما هو أخطر على المزايا التي اكتسبناها من أن نضع قانون يُفرض على النظرية!، لا يعني ذلك بأنني أقول بأن لا يكون هناك شيء من الصرامة..
ولكن أعتقد أن الصرامة تأتي بأن نكون قلقين اكثر من الظروف التجارية المتحكمة بهذه الصناعة، والغوغائية وخفض مستوى الطموحات، لا أن نهتم بفرض معايير جمالية معينة على الفنانين وكما أرى فإن المخرج الذي قد يقوم بعمل يقترب كثيرًا من المُثل والمعايير الجمالية الخاصة بك فلن يحقق منها سوى 10 أو 20 بالمائة مما تريده، نظرًا لظروف الإنتاج وهو ما قد يختلف عندما يقوم بتصوير الأفكار التي تتوافق وتتماثل مع ما يريده حتى لو كان مفهومه عن الواقعية الجديدة يختلف عنك، وسوف يقوم تقييمك للفيلم الأول متوسطًا والآخر سوف ترسله إلى الجحيم دون وجود حق للاستئناف.
من وجهة نظرك فإن روسيليني سيكون أقل عرضة للوم إذا قام بعمل مُشابه لمحطة تيرميني، أو إمبيرتو دي، مقارنة ما إذا قام بإخراج فيلمي كـ "جان دارك في كفة الميزان" أو " لا باروا"، وليس في نيتي الآن أن أدافع عن مؤلف فيلم "أوروبا 51" على حساب لاتاودا أو دي سيكا، ولكني لن أقوم بذلك، لكن ما أريد قوله أن روسيليني يبدو لي فنان يُعطي الاستقلال التام لعمله - بغض النظر ما إذا كان أحد يفكر بأرضية وأسلوب مختلف عنه-، ففرادة الأسلوب وعمق الفكرة الشخصية هو شيء نادر جدا في السينما وهذا الأمر يجبرنا على إجلاله قبل حتى أن نُعجب به، ولكني لن أدافع عنه بهذه الطريقة المنهجية ولكني حجتي مبنية على افترضات معينة وهى..
هل سبق روسيليني الواقعية الجديدة حقًا، أم أنه انضم لها لاحقًا، في رأيي وعلينا أن نعترف بأنه سبقها وكان "نيوريلست" قديم، فقد لعب الدور الأساسي في وضع أصول الواقعية الجديدة في فيلمي "روما، مدينة مفتوحة" وبيزا، وأسهم في تطورها، ولكن حسب ما تقول فإن الانحدار أو الانحراف عن تلك المدرسة ظهر في بعض الإشارات في "ألمانيا العام صفر" وكان جليًا في "سترومبولي" وزهور الفديس فرانسيس قم في أوروبا 51 ورحلة إلى إيطاليا، ولكن دعنا نكون جوهريين أكثر، على ماذا تلومه في هذه الأعمال التي كانت غنية وجمالية، نعم، لقد أصبح قلقه أقل فيما يخص الواقعية الاجتماعية وتأريخه لأحداث الحياة اليومية، نعم، لا يُمكن إنكار أن قلقه هذا قد انخفض لصالح التركيز على الرسالة الأخلاقية، ولكني أرفض أن أسمح للنقاش أن ينزل لهذا المستوى المليء بالشكوك فنحن نعرف في الواقع أن لروسيليني ميول مسيحية ديموقراطية فيما يتعلق باتجاهه السياسي، ولكن لا يوجد اثبات واضح على إدخال ذلك في فنه، وحتى هذا السبب لن يكون بهذه الدرجة من الإقناع لي لاستبعاده من فئة أنه فنان ينتمي للواقعية الجديدة.
ودعنا نقول أنه ليس لأحد الحق في رفض أخلاقية أو روحية قد شعرنا بها في بعض أعماله المتأخرة، ولكن ذلك ليس معناه رفض الإطار الجمالي الذي تحتوية الرسالة، قد أقبل ذلك إذا كانت أفلام روسيليني أقل حقيقية، أو أنها تعتمد على أفكار مسبقة ولكن في هذه النقطة فلا يوجد مخرج إيطالي لديه هذه الميزة في نقل الواقعية تقنيًا ولغويًا مثله، وهذا ما يميز روسيليني وما جعله يتصدر المشهد.
فيليني - روسيليني - دي سيكا
إذا كانت هناك كلمة لها معنى - فمهما كانت الخلافات التي تنشأ في تفسيرها-فإنها تقف ضد الأنظمة الدراماتيكية التقليدية في هذا الفن، وكذلك ضد أنواع أخرى من الواقعية في الأدب والسينما ونحن على دراية بها وبانها تريد أن ترى "الكمال" في واقعها". أما الواقعية الجديدة فهى وصف للواقع كل من خلال الإدراك والرؤية الخاصة للأشياء بشموليتها، ما أعنيه هو أن الواقعية الجديدة تتناقض مع جماليات الواقعية التقليدية وتتفق مع المذهب الطبيعي، لذلك فلا يجب أن نشعر بالقلق حول اختيار الموضوعات أكثر من قلقنا فيما يتعلق بالوسيلة أو الأسلوب، ففي فيلم "بيزة" فهناك تصوير للمقاومة الإيطالية وهو أمر قد يتم طرحه في أفلام عدة، لكن المختلف هو كيفية تصوير روسيليني وعرضه للأحداث.
لأطرح ذلك بطريقة أخرى، الواقعية الجديدة ترفض التحليل مهما كان، سياسي، أخلاقي، نفسي، منطقي أو اجتماعي وهو أهم جزء في تعريفها، لا الموقف الموضوعي الشخصي للفنان، أو الوثائقية، فهى لا تقتصر على ذلك، وروسيليني مولع بالقول بأنه لا يركز حبه على شخصياته فقط بل في تصوره للعالم الحقيقي كما هو تمامًا بدون أن يضع تصور مختلف وموجه لفكرة ما، ففي الأساس فإن الواقعية في نظري لا ترفض اتخاذ موقف وجها لوجه مع العالم، لكنها ترفض الحكم عليه، فالفنان يتأثر بوعيه الخاص ولكنه لا يضع أسبابه ومشاعره وإيمانه ومعتقداته الخاصة كعائق من تميز عناصره وحقيقتها.
أود ان أطرح السؤال بهذه الطريقة، الفنان الواقعي التقليدي "زولا" على سبيل المثال يحلل الواقع إلى أجزاء ثم يقوم بتجميعه وتوليفه وفقًا لمفهومه الأخلاقي عن العالم، في حين أن وعي الواقعي الجديد يقوم "بفلترة" هذا الواقع مثل أي شخص آخر اعتمادا على وعيه، لا يعترف بالواقع ككل بل يقوم بتحديد - ليس ما هو منطقي ونفسي- بل ما هو وجودي، بمعنى أنه يعيد تصدير الواقع لك كاملًا لكن ليس كصورة بالأبيض والأسود كُسرت ويريد تجميعها من جديد- بل إنه يضعها معًا ولا يضيف لها "اللون المصطنع" بل يضع البصمة الحقيقية للواقع، وهو نوع من عفنٍ مضيء في اللون العام لهذه الصورة وهو ببساطة لا يُحسب- الأهم، هو أن تكون هناك هوية وجودية بين الكائن وصورته الفوتوغرافية.
ربما يُمكنني أن أكون مفهومًا أكثر بمثال آخر وهو فيلم "فياجو اين ايطاليا" فهو فيلم باعتراف الجميع خيب آمال الجمهور لأنه لم يصور نابولي بصورة مكتملة، فقد نقل روسيليني جزء صغير من الواقع، ولكن في رأيي فقد رأينا التماثيل في المتحف، النساء الحوامل، التنقيب في بومبي ومشهد موكب الشهيد المسيحي، وهذه مشاهد لديها نوع من الكمال "في رأيي أنه ضروري" فقد تم تصفية وفلترة نابولي من خلال وعي البطلة " انجريد بيرجمان"، وعي عاري تماما ومحصور في نطاق عقلها هى فقط، فهى سيدة برجوازية عادية تعاني من القوة الروحية الهائلة عند فقراء نابولي، نابولي في هذا الفيلم ليست نسخة كاذبة "فيمكن لمن يريد أن يتعرف على نابولي بسهولة أن يرى فيلم وثائقي لمدة 3 ساعات طويلة عنها"، ولكن نابولي هنا عند روسيليني ليست مجرد مناظر طبيعية وصور جامدة، بل هى صور ذاتية عند وعي وشخص "البطلة"..
الآن يُمكننا أن ندرك الموقف والأسلوب الذي يقف فيه روسيليني منفردًا فيما يخص شخصياته، وجغرافية المكان وصلته الاجتماعية وموقف بطلته نحو نابولي وأهلها، هذا برأيي هو الفرق بين الإدراك العادي وبين إدراك هذا الفنان المثقف للغاية والذي في رأيي فنان يملك حيوية روحية استثنائية..
أعتذر عن استمراري في التحدث بطريقة الاستعارة، ولكنني لست بفيلسوف ولا يمكن أن أنقل المعنى بطريقة أكثر مباشرة لذلك فسأحاول عقد مقارنة أخرى، وأقول هذا الشكل الكلاسيكي التقليدي من الفن الواقعي، الذي يتم بناؤه كما يتم بناء المنازل بالطوب أو قطع الحجارة، فلا يوجد أحد هنا يُشكك في فائدة هذا المنزل أو جماليته التي يُمكن أن تكون موجودة او مدى ملاءمة هذه النوعية من الطوب في بناء المنازل، فواقع الطوب لا يتم الحكم عليه في مدى جماليته مُفردًا او مدى قوته بل من خلال تكوينه النهائي والكاملن فأنت لن تفكر في هذه المادة على انها مجرد قطعة من الصلصال، ما ستفكر فيه وما يُهم هو أن تكون الأبعاد سليمة وأنه العنصر الأساسي لبناء منزل، وليس بما يُنبيء به مظهره.، مثل الصخرة الكبيرة كذلك التي تقوم بتكسيرها ووضعها لتساعدك على عبور النهر، فهى لا تتأثر بقفزك عليها من واحدة لأخرى، والمعنى الذي تحقق "فقط" ، تحقق بفضل استخدامك لها وفائدتها في تحركك، الحركة التي قمت بها هى من جلبت البراعة للأمر برمته، ولن يغير أي شيء ما هى طبيعتها أو مظهرها بالنسبة لك، فأنت فقط من أعطيتها المعنى والفائدة الموقتة.
هذا المثال يُساعد على فهم معنى الواقعية الجديدة والذي يسمح للعين بالانتقال من حقيقة لأخرى، من واقع لآخر، في حين أن الكلاسيكية هو تكوين فني يتم على أساس البداهة، المنزل قائم بالفعل وهناك لبنة قد شيدته، إذا كان التحليل الخاص بي هو الصحيح فإن هذا يعني أن مصطلح الواقعية الجديدة ينبغي أن لا يستخدم كاسم، بل أن يتم معاملته كهيئة، كجسد، فالواقعية الجديدة على هذا النحو لا أساس لها، بدون وجود مخرجين واقعية جديدة سواء كانوا ماديون، مسيحيين، شيوعيين، أو أيًا كانن فيسكونتي هو "نيورياليستيك" في فيلمه " لا تيرا تيرما" وهو دعوة لثورة اجتماعية، روسيليني هو "نيوريالستيك" في فيلم زهور القديس فرانسيس، وهو الفيلم الذي يُضيء لنا حقيقة روحية محضية.
انجريد بيرجمان بطلة العديد من أفلام روسيليني وزوجته
بل أنني أرى بأن فيلم "رحلة إلى إيطاليا" هو فيلم واقعية جديدة أكثر من "ذهب نابولي" على سبيل المثال، رغم إعجابي به ولكنه يدعم الاتجاه النفسي والمسرحي، على الرغم من بعض اللمسات الواقعية فيه، وأود ان أذهب إلى أبعد من ذلك بالقول بأن روسيليني قام بتوسيع حدود الجمالية في الواقعية الجديدة أكثر من أي مخرج إيطالي آخر، لقد قلت أنه لا يوجد شيء يُسمي بالواقعية الجديدة النقية، فالواقعية المثالية والكاملة هو أمر لا يُمكن الاقتراب منه، ففي كل الأفلام التي يُطلق عليها "واقعية جديدة" هناك نوع من آثار الواقعية التقليدية، بإثارة أو إدهاش أو إضافة بُعد نفسي ويُمكن تقسيمها جميعًا إلى العناصر التالية:
الواقع الوثائقي مُضاف عليه شيء آخر، وهذا الشيء الآخر يكون نوع من الجمال البلاستيكي في الصورة، او المعنى الاجتماعي، او الشعري أو الكوميدي وهلم جرًا، ربما تكون قد وقعت في فخ الإمساك بحدث أو أثر مقصود في أعمال روسيليني، ولكن ليس هناك شيء في أفلامه ينتمي للأدب أو الشعر، أو حتى إدخال الجمالية في الكلمة لإرضاء المتفرج على حساب المعنى. روسيليني يوجه الحقائق، ربما يبدو الأمر كما لو أن شخصياته مسكونة بدافع الحركة أكثر، أو أن إخوته في فيلم زهور القديس فرانسيس لم يجدوا طريقة أفضل لتمجيد الله من إقامة تلك السباقات، او مسيرات الموت الليلية لفتيات الفلاحين والقنافذ الصغيرة في الشوارع في فيلم ألمانيا العام صفر؟
إنه إشارة "لفتة"، تغيير، بالحركة المادية التي يستعملها روسيليني لتشكيل جوهر الإنسان في أفلامه، وهذا يعني أن شخصياته أكثر عرضة للتأثر بواسطة الحركة المادية، عالم روسيليني هو عالم من الأفعال النقية، غير مُهمة في حد ذاتها ولكنها تُمهد الطريق "كما لو أنه دون معرفة من الله نفسه" لكي يصل لك الوحي المُبهر والمفاجيء للمعنى، هذا هو الحال في فيلم "رحلة إلى إيطاليا" فنرى اثنين من الشخصيات "القادة" والذين لا يظهرون حتى على الكاميرا، غامضين "وروسيليني لا يدعي بأن وراءهما معجزة، ولكن يُشير فقط للضجيج وحشد الناس وحركاتهم التي تستدعي وتنتظر المعجزة" وهو تأثير هام لتجسيد وعي شخصياته من خلال هذه الطريقة، ومع ذلك، يُظهر في هذا التدفق الغير متوقع في المشهد حبهم لبعضهم البعض.
في رأيي، لم يكن هناك أحد أكثر نجاحًا في خلق جمالية الهيكل الجمالي بثوة حرفية وكاملة ووبكل شفافية كما فعل، وكانت أفضل على مستوى التوجيه وملاءمتها للأحداث من مؤلف فيلم "اوروبا 51"، الهيكلة التي يقوم بها روسيليني تسمح للمشاهد بأن يرى " لاشيء" ولكنه يرى الحدث نفسه، غير متبلور ولكن فن روسيليني يعتمد على معرفة ما ينبغي القيام به لإضفاء الحقيقة على الشاشة ولكن بشكل جوهري أكثرن أنيق أكثر، ليس برشاقة ولكن بحرفية أكثر في التخطيط، والتكوين، الواقعية الجديدة في أسلوب وفهم روسيليني تستند إلى التجريد في الأساس.
لكي يتم وضع الاعتبار للواقع فهذا لا يعني إظهار الحقيقة تلو الحقيقة، مع تراكم المظاهر، بل على العكس، بل يعني أن يتم تجريد المشهد من كل ما هو ليس ضروريًا من أجل الحصول على مُنجز مُخطط ولحني، صحيح أن بعض ما يظهر في أفلامه يُعيد لذهن الشخص "السيكيتش" أكثر من إظهاره والتزامه للصور الواقعية كما هي، ولكن ما هى ضرورة أو حتمية تجسيد خط واضح عن الفقر أو الاستدعاء لصور ما، أو عن الكسل؟.
يجب أن أقول بان روسيليني هو أستاذ "خطاط" أكثر من كونه رسام، كاتب قصة قصيرة أكثر منه روائي، ولكن ليس هناك هذا التسلسل الهرمي للأنواع فيما يخص الفنانين، لا أتوقع ان أكون قد أقنعتك عزيزي آريستاركو، ولكن على أي حال فمن المستحيل أبدًا بالحجج أن يفوز شخص ما على آخر، الإدعاء بذلك يخلق ما هو أكثر من اختلاف، ولكني سأشعر بالرضا لو أن قناعاتي "والتي سوف تجد صدى من الإعجاب عند روسيليني ويعض من النقاد الزملاء" سوف تخدُم قناعاتك كذلك.
أندريه بازان.
ترجمة: حسـين ممـدوح
karasatilcinema.blogspot.com