Garden of earthly delights لنقم برحلة قصيرة إلى المسرات، محبوبي
لو أنك أردت أن تشاهد فيلما تجريبيا ، في هذه الفترة التي تمر بها السينما أعظم مراحلها على المستوى التقني والأسلوبي - أو لنقل هذه المدارس المختلفة حول العالم في صناعة الفيلم-، أن أتخرج من هذا الأُطر الأسلوبية وتشبع روحك دون سرد أو قصة تتبعها من الدقيقة الاولى حتى الأخيرة، فيمكن أن يقال أن ليخ ماجفيسكي نجح في ذلك بنجاح غير منظور كثيرا لأن مشاهدات ونجاحات أفلامه تجاريا ربما لا تساوي شيئا إذا ماقورنت بغيرها.. إنها حديقة المسرات الدنيوية.ل
نخرج من هذ الإطار، حسنا، لنجد أن ماجفيسكي صنع فيلمًا دون أدوات. لا شيء..على الإطلاق "وتم تكريمه في عام 2004 في مهرجان روما السينمائي الدولي" وهذه ليست المرة الاولى التي أتقن فيها هذا فقد صنع العديد من الأفلام لم تحظى كذلك بالانتشار ولكنه وضع بصمته الخاصة في أذهان محبي السينما المستقلة لسنوات طويلة.
استخدم ماجفيسكي كاميرا واحدة "هاندي كام" من نوع سوني بي دي 100، وكان بطلي الفيلم هم المصورين حينئذ، في أغلب الأوقات كان إحداهم يحمل الكاميرا لتصوير الآخر ، وفي أحيان أخرى كان ماجفيسكي يقوم بذلك.
الحكاية عن باحثة بريطانية في تاريخ الفن تذهب لإلقاء محاضرة عن لوحة هيرومونيس بوش" حديقة المسرات الدنيوية" ، تصاب هذه الباحثة بسرطان الحلق، إن أيامها معدودة ربما، تذهب في رحلة مع المهندس البحري " كريس مارتن" وتقوم بتأجير شقة في فينيسيا، إن الأمر بسيط..هيا لنقم برحلة مع المشاهد الذي يتجول معنا عبر الغرف ، الحمام، المطبخ، ويشاهد هذه العلاقة الحميمة بينهما التي ما غيرها المرض.هذه الكاميرا التي صُنع منها الفيلم امتازت بالخفة والضآلة، إنها لو كانت مشاهد داخل فيلم، فهى ليست بعائق وأنت لا تشعر سوى أنك رفيقهما الثالث، تقوم كلاودين مع محبوبها كريس بتحويل محاضرتها في إيطاليا إلى ما يشبه الواقع المتجسد، المؤلم والمحبب لكليهما..إنها اسكتشات ذاقا فيها كل مسرة سويًا، اللعب، الركض، الأكل، الالتحام في ذات واحدة روحيا وجسديا.
وإن كان المخرج في الأساس رسام وشاعر وكاتب مسرحي، فإنه عرف كيف يحول لوحة بوش إلى لوحات، قطع منفصلة وبالغة التأثير في المشاهد، استخدام الضوء والموسيقى البسيطة - من صنعه هو ويوسيب سكرزيك- التي تعتبر زائرًا على الفيلم كان مدهشا، لم يعتمد ماجفيسكي على الحوار لكي يوصل إليك ما يريد أن يوصله، وهنا يمكن أن يتم تصنيف الفيلم أنه يحتاج لمتذوق ومحب لسينما الصورة بكل بساطتها وسذاجتها وانتقالاتها ما بين المشاهد بصورة بسيطة وخفيفة.
يُعلي الفيلم من قيمة الحياة، من هذا السحر الخاطف الذي هو نفسه من أنهى حياة البطلة بتقرير طبي في نهاية الفيلم حول كريس إلى زائر وحيد في عالم فينيسيا الهاديء والقاتم.ينقل الفيلم طوال أكثر من ساعة ونصف صور حقيقية ورمزية يتعاون فيها كريس وكلاوديين سويًا مع الزائر الثالث لفينيسا وهو نحن" المتفرجين"، هذه الصور التي تشاهدها تشعرك بالبهجة والانسجام مع كل مسرة تعطيها لك الحياة، تلتهمها معهما، ولكنه يشعرك بالتوجس و الاحتياط من التعامل بكل براءة مع هذه المسرات، المسرات التي وظفها كرمز لحرية الانسان التي تسموه، مع نهاية مؤلمة لكلاودين..فهذا الوجه لين القسمات هو نفسه وجه الموت ، يتركك الفيلم مع الوجه الحقيقي والخائف الذي يتعامل به كريس مع فينيسيا، وحده وأنت الزائر الثاني معه..دون كلاودين.
في المجمل قدم لنا المخرج البولندي لوحة سينمائية عظيمة، إن شئت فلتقل لصنع تحفة متواضعة ، تأملية، غامضية..فيها من الميتافزيقيا، أو الوجودية، والارتياب والقلق، أيًا كان استوعابك أو ما ستشعر به عند نهاية الفيلم.لا يمكن أن نوجه ملاحظات مباشرة أو تعديل على العمل، لأن سر سحر هذا النوع من السينما لا يمكن يتأتي إلا بالصورة المفرطة في اللا رتوش، الحديث والمشاهد المنزوعة من أي إطار ، يمكن لك أن تقول أن بولندا تمتلك سينمائي آخر عظيم بعد كيشولفسكي.