Tuesday, 29 December 2020

فيديريكو فيليني.. طفل يرسم على الشاشة


 

في 20 يناير 1920 ولد المخرج الإيطالي الكبير فيديريكو فيليني، وجاء في عهد مختلف من السينما لكنه كان مبتكراً وتجرأ على الموجود ليصنع تجربة سينمائية بعيدة عن الأعراف والقوالب.


خلق فيليني عالماً سحرياً، ورغم أن الكثير من النقاد لم يعطوه حقه كاملاً كونه ليس ابناً بالكامل للموجات الجديدة التي ظهرت في عصره وحتى الثمانينات من القرن الماضي والتي نالت صيتاً أكبر لكنه خلق تجربة مغايرة تماماً.


"ليست ذاكرتي هي التي تهيمن على أفلامي كما يقال..القول بأن أفلامي مجرد سيرة ذاتية هو تعسف".


ركز فيليني على موضوعات كثيرة: الطفولة، تكوين الشخصية، الحنين إلى الماضي، الأحلام التي تصيب الرجل في مراحل مختلفة من حياته، الذكريات.


وكان فيليني متطرفاً في الجنوح إلى جعل صورة أفلامه ممتعة في سردها إلى درجة دخول الكثير من النكات بها، سواءاً لفظية أو شكلية، ذكية كانت أو غبية، متجاوزة أو لطيفة.


"لا يوجد شيء مُعين في أفلامي..كل ما أعرفه عندما أصنع فيلماً أنني أريد أن أحكي، ورواية القصص هي اللعبة الوحيدة التي تستحق اللعب..إنها لعبة بالنسبة لي ولخيالي ولطبيعتي، وله ضرورتها الخاصة".

شاشة العرض أشبه بسيرك كبير



ولد فيليني في 20 يناير في مدينة ريميني في إيطاليا..عندما كان في الثانية عشرة من عمره هرب من منزل العائلة للذهاب إلى السيرك، وربما يفسر ذلك حبه للمهرجين وظهورهم في عدد من أفلامه.


وفي سن السابعة عشر غادر مدينة ريميني وذهب إلى روما وعاش في البداية كـ رسام كاريكاتير ثم عمل ككاتب نصوص لمؤتمرات وفنانين آخرين.


تزوج فيليني من الممثلة جوليتا ماسينا وتعرف على روسيليني الذي تشارك معه ككاتب سيناريو ومساعد مخرج في تأسيس مجموعة من الأفلام التي أطلق عليها لقب الواقعية الجديدة، قبل أن يقدم فيلمه الأول عام 1951 باسم "الشيخ الأبيض".


لم ينجح ظهوره الأولى في إحداث شيء مثير للاهتمام أو مؤثر وكانت تعليقات النقاد سلبية وتم سحب الفيلم من كل دور العرض فوراً، ورغم عدم جاذبية الممثل ألبيرتو سوردي، أصر فيليني على أن يكون بطل فيلمه الثاني.

روح فيديريكو .. شخصيات حقيقية يعوزها الخيال

الأماكن التي أحب فيليني التصوير بها كانت مليئة بالرحابة، ولكنها أماكن مُلغزة ، الشوارع والساحات والأزقة الليلية ذات الإضاءة الخافتة، والمساح في الأحياء ودور السينما القديمة المتهالكة والشواطيء المهجورة.


كان يرى فيليني في أماكنه تلك ساحة حقيقية للمعجزات، بها أنفاس الخيال..غير محدودة ولكنها بنفس الوقت غامضة وساكنة تماماً.


نجح فيلم فيليني الثاني "فيتيلوني" وحصل على جائزة في مهرجان فينيسا. وكان فيلماً عاد به إلى ذكرياته في ريميني..حيث ليالي الشتاء والضباب..نكات الأصدقاء الغبية والترقب للصيف.. لم يكن فيديريكو يحب أن يصور الواقع فحسب..بل يريد بناء عالم خيالي يخصه وحده من عنصرين : الظلال والضوء.





ولذلك كان فيلم لا سترادا نموذجاً فيما أرد فيليني صناعته بوجود ممثل بقيمة أنتوني كوين ، فيلم قوي وحبكة مميزة ومليء بجو الأروح والأشباح، نعم هي شخصيات حقيقية وطبيعية تماماً، ولكن تكتسب الخيال في لحظات المخرج المكثفة مشاعرياً وإنسانياً.


كان فيلماً يرمز إلى الاحتفال، أنتوني كوين غجري بدائي وعنيف يقدم عروضاً في عد من الساحات مقابل القليل من المال ومعه جيلسومينا الساذجة والحساسة..يتجولان ويسيران في الشوارع المتربة والبؤس الذي لا يصدق..لكن ذلك الدور الفريد الذي قامت به جولياتا ماسينا حول اللا مبالاة والقسوة إلى حياة تنبض على الشاشة وتتعارك معها.


ثم تلاه فيلم "إل بيدوني" والذي يظهر فيه عالم المحتالين والمكر، وقدرتهم على القيام بعملهم دون إراقة الدماء، وكان فيلماً مُفضلاً لدى فيليني رغم عدم شعبيته.

العالم الحلو والمُعقد 



أما فيلم لا نوتي دي كابيريا فكان العمل الذي انتظر فيليني 10 سنوات حتى يراه في النور..حيث جرى العمل مع عدد من عمالقة الإنتاج في ذلك الوقت للدخول إلى عالم النوادي الليلية..وكانت كابيريا هي تلك العاهرة الفقيرة والتي بملامحها براءة عجيبة وهشاشة لا مثيل لها، لم تكن محظوظة في حياتها.. وأرادت الخروج من ذلك الروث.


حاول صديق لها قتلها من أجل الحصول على مالها بعد أن وعدها بالزواج..سخر منها زملائها في ذلك العالم الرخو، لقد انخدعت كابيريا بالغرور الأسطوري لحبيبها، حتى أنها كانت تصلي من أجل حدوث معجزة  تغير مصيرها، ابتسامتها المسالمة في تقبل مصيرها وحلمها الدائم بعالم أفضل..كأنها ترفض أن تكف عن السير في طريق غير معقول يعدها بجائزة على إحباطاتها.


أما فيلم "حياة حلوة" فكان الأنجح تجارياً ولكن واكبه انتقادات قاسية من النقاد ووصفوه بأنه يحرض على الفجور، وتم الطعن على الفيلم من قبل الأجهزة الرسمية ووصلت القضية إلى البرلمان، وحتى أصبح الفيلم قضية عامة تراجع دور النقاد.



كثيرة كانت أفلام فيليني المؤثرة والتي صنعت خيالاً خصباً حتى في عقل المشاهد، وكان فيلم 8 ونصف هو العمل الذي يقال بأنه الأقرب للسيرة الذاتية لحياته، والذي كان به إنتاج كبير واستثمارات ضخمة، كما تزين العمل بموسيقى نينو روتا المذهلة.


كانت موسيقى نينو روتا مرافقة لفيليني، وتلعب دوراً فجأة لتدخل في مسار الأحداث بصمت وخفة، في عالم المهرجين والراهبات والمواطنين العاديين القلقين ورجال السيرك والترفية وكل شيء آخر يمكن للمرء أن يتخيله..ببساطة فيليني أراد بعدسته الفضولية كطفل أن يواصل الوثب من مكان إلى آخر، يتعمق في الأشياء بروح خفيفة ولكنها مليئة بالأفكار الحرة التي لا تصيدها شباك..كان عالماً معقداً، وحلواً في الوقت ذاته.





Thursday, 13 July 2017

المهرجانات السينمائية كطقس ديني


يفد الكتاب "نقادًا وصحفيين" من أنحاء العالم لقضاء أسبوعين، يعيشون فيهما حياة مناقضة تمامًا لحياتهم المهنية والشخصية اليومية.
للناقد الراحل أندريه بازا- كراسات السينما "الفرنسية"- نشر في 1953


أندريه بازا، ناقد سينمائي فرنسي، ولد في أبريل/ نيسان 1918 وتوفى في نوفمبر 1958. طوَّر الكثير من النظريات السينمائية والخاصة "بالفيلم"، كان واحدًا ممن قاموا بالكتابة في مجلة كراسات السينما الفرنسية الشهيرة في خمسينيات القرن الماضي. وله عشرات الكتب النقدية، من أهمها كتاب "ما هي السينما" وكتابيه عن جان رنوار وأورسون ويلز وكتاب سينما القسوة "من بونويل وحتى هيشتكوك". وأهدى المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو فيلم 400 ضربة إلى روحه.

بالنظر للأمر من الخارج، يبدو لي أن المهرجانات كانت دائمًا مثالاً صارخًا للدنيوية. ولكن بالنسبة لمحترفي المهرجانات من النقاد والكتاب، فإنه ليس هناك أكثر جدية و"أقل دنيوية"مما يُمكن أن يّرى في مهرجان كان.
وباعتباري شهدت كافة دورات كان منذ نشأته في 1946، فأنا شاهد على عملية الإتقان المتنامية لظاهرة "المهرجانية"، والطقوس والإجراءات التي وُضعت، وإنشاء الهيراركية "التراتبية الهرمية" في أروقته. وبمقارنة تاريخية، تذكرني هذه التراتبية بتأسيس الجماعات الدينية، فالانخراط التام في المهرجان يبدو وكأنه انقطاع للعبادة في دير. فالقصر العالي في "لا كروازيت" لا يقل عن كونه ديرًا معاصرًا مخصصًا لصناع السينما.
قد يظن البعض بأنني أحاول أن أكون مثيرًا للارتباك والتناقض، لكن هذا بعيد جدًا عن حقيقة الأمر، هذه المقارنة طرقت ذهني في نهاية 17 يومًا من النُسُك والعزلة والحياة المنظمة بالكامل. فإن كانت الجماعة الدينية تُعرف بقواعدها الخاصة والتزامها بحياة من التأمل والتفكُّر، حيث ينضم الناس للعبادة المقدسة لواقع فوقي متجاوز، إذن؛ فالمهرجان هو تنظيم ديني.
يفد الكتاب "نقادًا وصحفيين" من أنحاء العالم لقضاء أسبوعين، يعيشون فيهما حياة مناقضة تمامًا لحياتهم المهنية والشخصية اليومية.
بداية؛ يأتي الكتاب كـ"مدوعوين" يُمنحون شعورًا بالراحة لا يخلو من التقشف، فالقصور محجوزة لأعضاء لجنة التحكيم والنجوم والمنتجين. هم يعايشون درجة من الفخامة مناسبة تمامًا للعمل الذي يتعين عليهم القيام به. وأنا أرحب تماما بالتخلي عن غرفتي الفندقية لصالح صومعة في أي دير، دون الفراش الخشبي بالطبع! وعلى ذكر الفراش الخشبي، المخرج لويس بونويل عضو لجنة التحكيم في دورة المهرجان المقامة عام 1954، لم يتردد في استبدال فراشه الوثير في الكارلتون، ويضع مكانه منضدة خشبية اعتاد النوم عليها.
السمة الرئيسية في حياة المهرجان تكمن في الالتزام الأخلاقي وانتظام جميع أنشطته. يستيقظ الصحفيون في حوالي التاسعة صباحًا. الطقوس اليومية تحضر مع وجبة الإفطار في شكل نشرتين للمهرجان، هما دوريتا سينماتو وفيلم فرانسيه، وهما تحويان جداول عروض اليوم الممتد حتى حفلات متأخرة "ماتينيه"، وحفلات أكثر تأخيرًا قد تصل لفجر اليوم اليوم التالي، بالإضافة طبعًا للحفلات المسائية "سواريه".
فتصبح الوجبة الثانية وكأنها وجبة إفطار "كسر الصيام"، ويتأخر العشاء 200 عام. بينما أصبحت حفلات الماتينية تعرض قبل دخول المساء، بينما الحفلات المسائية "سواريه" تمتد حتى مطلع النهار. ومهما تأخر الوقت الذي يخلد فيه المشاركون في المهرجان إلى فراشهم، عليهم أن يستيقظوا في الفجر، والفجر هنا هو الاسم الذي نطلقه على العرض الخاص الذي يجري في العاشرة والنصف صباحًا.

الممثلة الفرنسية الشهيرة ميشيل مورجان من حفل كان 1946 وقد قامت بالاشتراك في أكثر من 70 فيلمًا
تقام هذه الصلاة في إحدى كنائس "دور عرض" المدينة. وعلى الصحفي أن يعود بعدها إلى الكنيسة الأم للحصول على الدوسيه الاحتفالي من المكتب الصحفي، ويضم النشرات الصحفية والدعائية للأفلام المعروضة، والمقالات المنشورة عن فعاليات اليوم، والدعوات التي لم تُرسل مباشرة إلى الصحفيين في فنادقهم. صارت الساعة الآن 12.5 ظهرًا، وقت مؤتمر صحفي معتاد سيقدم لنا موضوعات يمكننا أن نتناقش فيها خلال وجبة الغداء المتأخرة، وفي الثالثة يأتي موعدنا مع الحركة من جديد في اتجاه القصر البازيليكي حيث يعرض فيلم الظهيرة.
ولأن طقوس الصلاة المسائية لا يمكن التعويل عليها، سأصف لك الإجراءات الليلية في "كان". تخرج في السادسة مساءً، الصحفيون العاملون في الطبعات الصباحية يبدأون العمل على تقاريرهم التي سيملونها تليفونيًا للصحف بحلول الثامنة مساءً، العاملون في الطبعات المسائية طبعًا أكثر استرخاءً، ويتجهون لحفلات الكوكتيل التي تبدأ في السادسة والنصف. ثم يأتي العشاء في الثامنة والنصف ليطلق أهم احتفالية: اختر ما يحلو لك. لكن أوامر المهرجان صارمة فيما يتعلق بكود الملابس خلال قداسه الليلي، على الأقل.

صوفيا لورين على سلالم المهرجان عام 1955
لقد بلغت من العمر من يجعلني شاهدًا على بداية تأسيس هذه الطقوس، وما يجعلني أحد من طُبقِّت عليهم هذه الإجراءات. في الدورات الأولى لمهرجاني "كان" وفينيسيا، لم تكن قد وضعت القواعد بهذه الصرامة. وكانت تعج بالصحفيين الشبان، وببعض أبناء الطبقات العاملة، ينظرون للأسفل وهم يتناولون الغذاء بستراتهم المتواضعة، وربما تسبب لهم رؤية بدلة داكنة الكثير من المشاكل.
لكني رأيتهم يتخلون عن كل هذا الانطلاق بمرور السنوات، واحدة تلو الأخرى. في البداية كانت هناك سنة داروا فيها على أصدقائهم لاقتراض بدلة سهرة قديمة، لكنهم استسلموا وأعلنوا القسم. واليوم صار العاملون في المؤسسات الصحفية الـ17 التي تأتي لتغطية المهرجان، يرتدون جميعهم الثياب الرسمية، ويبدو وكأن هذا هو الطبيعي. بشكل شخصي، ولا أرى في ذلك أي حرج، فإن هذه البذلات الرسمية كانت تبدو جيدة عليّ، خاصة البيضاء منها، رغم أن رابطة العنق على شكل الفراشة دائمًا ما تشعرني بالفشل عند التعامل معها.
لكن الثياب لا تصنع الرجال، كما أن العضوية في هذا التنظيم المهرجاني، صارت تتأكد ببطاقات تصدرها ماكينة تمنحك كارتًا يتيح لك الدخول. وبمجرد أن تدلف لتلك الأرض المقدسة، تبدأ هيراركية جديدة، يمكن أن ندعوها بالتمييز الفعّال. الصحفيين يحجزون المقاعد بين الصفين السادس والعاشر من مقاعد الأوركسترا.
ولو أنك تركتهم لأنفسهم دون تحديد، فستأخذهم أقدامهم للمواضع نفسها بحكم خبرتهم. لن يقتربوا من الشُرفة "البلكون"، وهي بعيدة جدًا عن الشاشة، ومناسبة تمامًا لأعضاء لجنة التحكيم والنجوم. ورغم ذلك، كل العيون تتجه للبلكون، فتصميم القصر الذي يُعقد به مهرجان "كان" يمثل تحديًا للصورة التي يرى الناس أنفسهم عليها عند حضورهم للمهرجان. والقواعد تقضي بأن يبدأ العرض بمجرد دخول الناس للقاعة.
في "كان"، المداخل بالغة الضيق وتتسبب في تصادم الناس في دخولهم وخروجهم. في السنوات التي يسوء فيها الطقس، يكون ارتباك الناس في الأمطار حكمًا بالإعدام على ثياب السهرة الجميلة. في فينيسيا تنبهوا لهذه المشكلة وبنوا تندة ضخمة عند المدخل يقضي الناس تحتها ما شاء لهم من ساعات ليحدقوا في ثياب بعضهم البعض. لكن على الجانب الآخر، فقد تجاهلت إدارة "كان" أهمية وجود مساحة مفتوحة قريبة، لصالح النجاح في تكديس قصر الباليز الواقع بجوار الكروازيت، ما جعل هذا المشهد الأحمق متكررًا.

جينا لولوبريجيدا
هناك نقطة عادة ما تعزز من شعور الصحفيين بالتفوق، وهي اعتياد التحديق في عيني لولو بريجيدا، الصحفيون يستمتعون فعلا بتميزهم عن باقي الحاضرين في المهرجان، الذين قد يفعلون أي شيء كي يروا نجمهم المفضل. نحن الذين نعلم كم يحتاج الدين إلى هذا الاستعراضات الدرامية والطقوس المذهبية، نعرف أيضًا أين نجد الإله الحقيقي؛ ولذا، فهذه المظاهر تبعث فينا شعورًا بالازدراء والشفقة المندهشة أكثر من الشعور بالاشمئزاز أو التطهرية. ويرجع هذا لكوننا نعرف أنه عندما تنتهي الطقوس يعود كل شيء إلى أصله الرائع.
بعد منتصف الليل بنصف الساعة، نجد أنفسنا مجددًا في الكروازيت، وبعدها نتجمع في مجموعات صغيرة في البارات القريبة لنناقش الأفلام التي شاهدناها طوال اليوم بينما نشرب الليمونادة.
في الساعة التاسعة صباحًا، نسمع طرقات الباب مع دخول وجبة الإفطار التي تُبشر بشعائر اليوم الجديد.
بالإضافة للبرنامج الذي قمت بوصفه، هناك كذلك بعض الاحتفالات، بطبيعة الحال ثلاثة أو أربعة منهم جديرين بالذكر، اثنين منهم على قدر من الأهمية، وهما الرحلة إلى الجزر وتناول شوربة السمك الحارة مع عرض استربتيز تقليدي لنجمة العام الواقفة على الصخور. ثم هناك حفل الختام. الأمور الأخرى تأتي في حفلات الاستقبال التي تقيمها شركات يونيفرانس ويونتاليا، وأحيانا من اتحادات المنتجين المكسيكان أو الأسبان.
كل حفل استقبال من هؤلاء يخلق المزيد من الدراما الكافكاوية بين الصحفيين، عندما يهمل منظمو هذه الحفلات دعوة بعض المؤسسات الصحفية. هؤلاء المنعمين الذين وصلتهم الدعوات، يدَّعون السخط والغضب وينضمون للمنسيين في انتقاد سوء التنظيم الذي يتهمونه وحده بالمسؤولية عن تجاوز المنسيين. ولكن في السر، هم فخورون بأنهم من المختارين، هذه المرة على الأقل.
مثال لافت وقع في السنة الأولى من المهرجان، خلال حفل الاستقبال السوفييتي الذي لا يُنسى، عندما خرجت الدعوات - حرفيًا- من القبعات. صحيفة لو فيجارو تمكنت من الحصول على دعوة بينما أُسقط جورج سادول. يمكنك أن تتخيل إذن التفسيرات والتكهنات السياسية والدبلوماسية التي دارت طوال الظهيرة.
بينما من وجهة نظر طقوسية، فإن أهم طقس احتفالي هو عراك الزهور الذي يتوسط مدة المهرجان، فهو يمثل فرصة كبيرة للنقاد للاسترخاء خلال ظهيرة أحد أيام المهرجان، والهروب من مسؤوليات العمل. كما أنه يمثل تغيرّا واضحًا في الطقوس اليومية، وحتى يحل موعده تكون الاحتفاليات والعروض السينمائية في المهرجان ذات وتيرة هادئة نسبيًا.
لكن بحلول منتصف المهرجان تتسارع كل الأشياء فجأة، تبدأ العروض الخاصة، وكل من لم يتمكنوا من تخصيص أكثر من خمسة أيام أو أسبوع واحد لحضور المهرجان، يظهرون ويبدأون في المشاركة لأنهم يعلمون أن النصف الثاني من المهرجان هو الأكثر حيوية. وفي هذا الوقت فقط تكون هناك فرصة للصحفيين والكتاب ليعيشوا الجو الرهباني.
ويكفي قضاء 15 او 18 يومًا من هذا النظام كي يفقد أي ناقد باريسي حس الاتجاهات، أؤكد لكم. عندما يعود الواحد من هؤلاء إلى بيته وحياته اليومية العادية في العمل، يشعر انه عاد من مكان بعيد، وأنه قضى وقتًا طويلاً في عالم يحكمه النظام والدقة والانضباط.
إنه أقرب لمنتجع عطري تضطر فيه للعمل الجاد والمرهق، لكنه منتجع تأتي فيه السينما على حقيقتها. هو فرصة للتوحد الروحاني أكثر منه خبرة لبضعة محظوظين لديهم قدرة على المشاركة في حفل ماجن ضخم. أصداء يجدها العائد من المهرجان - مع بعض التشكك- على صفحات السيني موند Cinémonde أو باريس ماتش.

-توفى أندريه بازا بعد 3 سنوات من نشر هذه المقالة وقد شهد جميع مهرجانات فينيسيا، كان، لوكارنو، برلين، ولم يحضر مهرجان روتردام مع تنامي عدم استقلال المهرجانات عن منتجيه وصانعيه، كان شغف بازان واضحًا للعالم الطبيعي وبالحيوانات، كان منزله مليئًا بها من القطة حتى البطة، وحتى التماسيح في حوض الاستحمام وكان تأثير عالم الحفريات والفيلسوف الفرنسي تلار شاردان واضحًا عليه حتى أنه قال أنه قام بمعالجة السينما بطريقة مشابهة وبنظرته التطورية ، لقد شاهد الأفلام كما لو أنها حيوانات أسيرة، حتى أعطى لها كرامة الوجود والاستقلال في وصف هيكلها وقواعدها باعتبارها علم وفن -يتطور بعوامل روحية في الأساس-.

شوجي تيراياما: اليابان التي لا يعرفها أحد.. سحلية مختبئة في زجاجة كوكاكولا





في "الق بكتبك بعيدًا" يترك شوجي المجال لبطله لكي يُخاطب نفسه. يتحدث في افتتاحية العمل مع صوت واضح لشريط الفيلم الذي يدور، يبعث برسالة إلى من يسألون عن الدافع في عمل أفلام عن القذارة، المدمنون، الشوارع والأزقة التي ضرب فيها الزمن كل قتامته، عن المهمشين، والعجائز وأصحاب الصوت المستبعد.
"عندما فكرت في [فيلم] الق بكتبك بعيدًا ولنخرج إلى الشارع، كان هدفي هو تحويل المدينة إلى كتاب، عبر التخلي عن الكتب المطبوعة والتجول في الشارع، وبذلك يكون للكتاب معنى أكبر وأوسع"- شوجي تيراياما
مثل كتابة اقتباسات من بورخيس وماياكوفسكي على الحوائط، ذلك الفن (الجرافيتي) الذي يتابعه ويحبه التقدميون، ويراه المحافظون تشويهًا ويعدونه افتعالاً للأزمات. كذلك أفلام المخرج الياباني شوجي تيراياما Shūji Terayama، المولود في بلدة هيروساكي عام 1935؛ الذي جسد في أفلامه رؤى من أزمنة قديمة شكلتها حصيلة إدراكه لمخلفات النهضة اليابانية. تلك الرؤى، حاول تيراياما تجسيدها عبر عدة أوجه؛ فهو شاعر، مخرج مسرحي، روائي وصانع أفلام. بل عمل كذلك في عدة مهن مختلفة في وسائل الإعلام، كمُعلق ومُقدم تلفزيوني.
أحب همفري بوجارت، [رومان] بولانسكي، أوشيما وأنتونيوني. كذلك السينما سكوب، أحب السيد سوكيتا المصور، السيد تيراياما المخرج ومساعده السيد أوسوي، أحب هذا العالم، ولكني لا أحب السينما، وداعًا للسينما.
كانت هذه خاتمة هيداكي ساسكي بطل فيلم" الق بكتبك بعيدًا، ولنخرج إلى الشارع - 1971". عندما أفسح له تيراياما المجال أمام الكاميرا ليختم الفيلم كما بدأه؛ بلقطة يواجه فيها جمهور السينما مباشرة. وبين اللقطتين 42 يومًا استغرقها تصوير الفيلم.
في هاتين اللقطتين تبرز القدرة على استعارة تلك الخاصية المسرحية على شاشة السينما. ومثلما كان ساسكي بطل الفيلم يبحث عن عمل لوالده؛ فإن تيراياما فقد والده في عمر الـ11 عامًا في حرب المحيط الهاديء بأندونيسيا (خلال الحرب العالمية الثانية).

تجريبية تيراياما.. الكلمات لا تكفي

يحاول شوجّي تيراياما أن ينقل صورة ورسائل واضحة لمحبي ذلك العالم السينمائي الخاص، الذي توحد معه كثيرون، هو منهم. لكن الأهم من ذلك في تجربة هذا الأديب الذي لجأ للفن السابع كي يفصِّل مفردات عالمه؛ هو تمرده على الأساليب التقنية السائدة في حجم اللقطة والسرد المُنظم. بل أنه يحاول في كل مرة أن يقوم بعمل توليفات مختلفة في مشاهده المتتابعة، وفق ميزان قد لا يُعجب المعتادين على السينما الهوليوودية، أو حتى الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. إنه أحد المبدعين اليابانيين المثيرين للجدل، والأكثر انتاجًا خلال القرن الماضي. وأحد أصحاب النظرة التشاؤمية والتجريدية من الجانب النظري الأدبي، ومن الجانب الفني كذلك.
جاء تيراياما بسؤال مُعقد: "هل الكلمات كافية لتخبركم بما في داخلي؟" لذا كان لا بد من إيجاد وسيلة أخرى. كان تيراياما -إلى جانب كتابة الشعر والدراما المسرحية- مصورًا فوتوغرافيا. ولكن الصورة مهما كانت براعتها وحدتها؛ فهي محدودة الصدى والمجال والقدرة على التعليق.
سؤال آخر يعبر فيه المخرج الياباني عن موقف سياسي واضح: "هل تستحق بلدي كل هذا العناء؟ هل تستحق أن أموت من أجلها وهى مثل السحلية في زجاجة الكوكاكولا" تعبيرًا عن تصالح اليابان مع الهيمنة الأمريكية*.
في محاولاته لطرح إجابات لتلك التساؤلات، استخدم تيراياما في أفلامه وأعماله المسرحية التجريبية -على مسرح تينجو ساجيكي Tenjō Sajiki الذي قام بإنشائه- البنية الهشة للعاصمة طوكيو، التي تعتبر وطنًا لمجمعات التسوق، ومجرد موقع جذب سياحي. وطنًا للتحديث السطحي والابتذال؛ بدلًا من إعادة البناء.
هناك أمور فريدة من نوعها في أسلوب تيراياما السينمائي، أبرزها؛ أنه لا يعترف بالبناء الاعتيادي الذي يجعل الصورة مثل اللوح المتراصة، ولا يخلُد لنزعة الفن التشكيلي في اختياره للقطات والمشاهد. ففي فيلمه "الق بالكتب بعيدًا ولنخرج إلى الشارع" نجد أنه يلقي تمامًا بالكتب الأكاديمية المتعلقة بهذا الفن بعيدًا. بؤرة ومركز الاهتمام عنده في بعض المشاهد ملغيان تمامًا. قد يركض بالكاميرا خلف بطله، قد يجعل الكاميرا أيضًا تشعر بـ"دوخة" وتسقط. لا أهمية للمادة، بل إنه يلعب بالصورة كما لو أنه شاعر يلعب بكلماته المتمردة.
في أحد مشاهد فيلمه "باسترول هايد آند سيك - لعبة الغميضة (استغماية)"، الذي كان ربما أقل تجريبية ورمزية من أفلامه الأخرى؛ نجد فتاة يبدو عليها ملامح الهذيان والدهشة عند هضاب صفراء بلون باهت، وهي تروح وتجيء وتدور حول وردة حمراء وجدتها في تلك الصحراء. هنا ينتقل كل الاهتمام للشيء، للزهرة، وينصرف عن الفتاة ذات الحركة القلقة. لا أهمية لتفسير الرمزيات، لكن الأهم هو تسليط الضوء على كيفية استخدام "الرسام" لألوانه. لم يكن يرسم؛ لكنه كان مصورًا إبداعيًا، ووجد في الفيلم ملاذًا له مع انتقالات لطيفة تحكمها فواصل شعرية.
"لكي أرى أفضل علّي أن أشق أجفاني"
الموت في القرية- شوجي تيراياما

حصيلة الذكريات؟

في هذا الفيلم الذي أُنتج عام 1974، كان شوجي أكثر قربًا لجماهيره، وربما أكسبه هذا العمل صوتًا "حماسيًا" ابتعد قليلًا عن حاسته ونمطه التجريبي المعتاد.
يُفتتح الفيلم الذي يُدعى باسم آخر هو "الموت في القرية"، بأطفال يلعبون الاستغماية (الغمُيضة) مع نعيق الغربان في مقبرة، تجسيدًا لويلات عانتها اليابان من الحروب المتتابعة، كل هذا بالأبيض والأسود. ثم ينتقل لليابان "الملونة"، التي تحتفظ بتقاليدها القديمة في القرية. لكن الصبي يريد أن يهرب نحو المدينة.
استخدم المخرج الكثير من الرموز الميثولوجية -الخرافات القديمة- وربطها بالأساس الجديد الذي ارتكز عليه المجتمع الصناعي. ليبيّن حياة تلك القرية التي تمضي بلا انتظار؟ في تلك النوعيات الخاصة من الأعمال السينمائية لا تنتظر قصة أو ترابطًا. فمثلًا هل يستطيع الزوج إصلاح الساعة؟ لماذا يستمر الشاب في تتبع زوجة الجار حتى وهى نائمة في الحديقة؟ لم تستمر النساء العجائز في الحديث عن هوية الطفل الذي ولدته فتاة شابة دون زواج؟ أتكون مجرد مجموعة من الذكريات في عقل الشاب؟ أكان تيراياما يُجسد نفسه هنا؟
"لا تقرأ هذه الجرائد، اقرأ فقط الكتب الساخرة التي اشتريتها لك"، تقول الأم لابنها الذي يحدثها عن قضية نشرتها إحدى الصحف عن الختان: "لا تفكر في مثل هذه الأشياء، فكر فقط في عملك"، فيذهب ليُكلم أباه -المتوفي- عبر إحدى الكاهنات والتي تأمره بالطاعة، لكن الولد يقول: "لكي أرى أفضل علّي أن أشق أجفاني".
يقول شوجّي -الذي عاصر الغارات الجوية الأمريكية على مدينة ميساوا حيث كان يعيش مع أقاربه- على لسان الشاب الذي يُجسد دور مخرج الفيلم: "أشعر أنني كلما اعتمدت على صباي في هذا العمل، وكلما أردت أن أشرح؛ أزداد غموضًا. إنه أمر أشبه بحجر الرحى الذي استمر في الالتفاف حوله".
في أعمال أخرى كان من المهم أن يعود شوجي ليتحرر من ذاته، ويصطدم بمجتمعه من الداخل، لصالح ما يخلقه كصانع أفلام أو "كفنان"، بدلاً من أن يستمر في الالتفاف والدوران حول حجر الرحى. في أول فيلم قصير يخرجه "امبراطورية صلصة الطماطم"، استخدم تيراياما أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 5 إلى 10 سنوات، ليحكي من خلالهم قصة ثورة ضد سيطرة الكبار. واعتمد في هذه الأعمال المبكرة على الارتجال مع ممثليه.
في "الق بكتبك بعيدًا" يترك شوجي المجال لبطله لكي يُخاطب نفسه. شاب أحب الملاكمة وكرة القدم، ولم ينجح في أيهما. يتحدث في افتتاحية العمل مع صوت واضح لشريط الفيلم الذي يدور، يبعث برسالة إلى من يسألون عن الدافع في عمل أفلام عن القذارة، المدمنون، الشوارع والأزقة التي ضرب فيها الزمن كل قتامته، عن المهمشين، والعجائز وأصحاب الصوت المستبعد.
"التلعثم هو أيدولوجية"؛ مثلما كان أحد شخوص فيلم "الق يكتبك" يتلعثم، فإن اللغة السينمائية لدى شوجي تحمل نفس السمة. فهو ينتقل بأريحية من صورة إلى أخرى. وربما كان هذا العمل الأكثر اكتمالًا له، وتمثيلاً لأسلوبه الخاص. فهناك تفعيل واضح لتقنية التنقلات السريعة ما بين المشاهد، وتجوال حر بين المساحات المختلفة للتصوير والحركة الفوضوية والرسم بالألوان -حرفيًا- على مشاهد ثابتة أو شبه ثابته، باستخدام الحوائط، والأصوات. ما يعجز عن قوله بالكلمات يُقال هنا بهذه الأدوات البصرية والصوتية المختلفة.
ما يهم حقًا هو أن تتلقى أنت هذا العمل وتشاهده كمتشرد. أن تمتزج حقًا مع تلك الدوائر التي يدور العمل بين شخوصها، وتتبنى لا مبالاتها المطلقة بالزمن الذي يمضي، والشخوص التي يسرد عنها البطل بصوته وهو غير عابئ إلا بالوصف السطحي: "أبي مجرم حرب، أختي عاهرة تكره الرجال، بيتي مثل زريبة الخنازير".
تاكوما ناكاهيرا

مسرح مثير للقلق

أعاد شوجي تيراما تقديم أوبرا- مسرحية "معجزة الماندرين" المجرية لبيلا بارتوك، لينقد من خلالها النظام الاجتماعي/ الأسرى الياباني، على مسرحه الذي أنشأه في منتصف الستينيات.
وهو عمل عن فتاة تغوي المارة من أجل المال، في بلدة كان أغلبها من الصعاليك، وحين يأتي أحد التجار الصينين الأثرياء، يهاجمه الصعاليك ويجردوه من أمواله والأشياء الثمينة التي لديه. ومع ذلك يستمر الصيني في التمسك بالفتاة، ويستمر الصعاليك في مهاجمته، بينما يستمر هو بالتحديق فيها بينما ينزف ويموت متأثرًا بجراحه.
كذلك أعاد تيرياما تقديم أوبرا "قلعة بلوبيرد". وبلوبيرد هو سيد القلعة، الذي قد يُمثل الأب في بعض الروايات أوالزوج لثلاثة نساء -طبقًا للعمل الأصلي الذي كتبه شارل بيرو في 1697، ترجمها وقدمها شوجي تراياما بشكلٍ مختلف تمامًا، وربما مُنَاقِض، لما قُدمت عليه من قبل. تراياما لم يهتم بطرح صورة القيود الذكورية؛ بل على العكس، طرح المسرحية المستمدة من الحكاية التراثية "ذي اللحية الزرقاء"، بصورة تُمثل غياب الحماية الذكورية و غياب القمع.
فهنا الفتاة "جوديث" التي تأمل في الزواج من بلوبيرد، تجده غائبًا وغير موجود، ثم تبحث عن شقيقها المفقود منذ عدة سنوات وتعرف في النهاية أنه قد مات. تخطو الفتاة إلى المسرح لتلعب دورًا مرسومًا كإحدى زوجات بلوبيرد لإرضاء خيالها. وتموت عندما تهب الحياة لطفلها وتصبح أمًا. تأبى الفتاة أن تكون زوجة منعّمة تحت وصاية زوج/ أب مسيطر، ويحصدها الموت في الطريق لحلمها بأن تصبح أمًا عاملة ومسيطرة على ابنها، مع زيجة سعيدة.

الاتجاه التخريبي في الفن الياباني بعد تيراياما

تاكوما ناكاهيرا
سينتهي الفيلم قريبًا ولن يتذكرني أحد، وعندما ينتهي ستكون هناك فقط الشاشة البيضاء، من الذي قال بأن أي شخص يمكنه أن يصبح نجمًا عالميًا في 15 دقيقة؟ فقط في هذه الشاشة الفارغة سوف أغني ... هل لديك الشجاعة أن تخرجي من تلك الزجاجة يا يابان، هل لديك الشجاعة؟
ترك شوجي تيراياما أثرًا عميقًا في أوساط المثقفين "السينمائيين والمسرحيين" في اليابان، خاصة في نهايات القرن الماضي، مع الرسام تادانوري يوكو على المسرح الثوري تينجي ساييكي، مطلقًا اتجاه جديدًا أثار القلق عند التقليديين، مما قد يفسر قلة الترجمات للمسرحيات التي كتبها.
يقول الفوتوغرافي تاكوما ناكاهيرا الذي توفي في ديسمبر من عام 2015: "عملت مع شوجي، وكنت أسعى لاختبار قدرتي على التقاط صور تُحرض على التفكير النقدي. كانت هناك فكرة عن القيام بمزج ما بين السينما والتصوير والهندسة المعمارية والخطاب النقدي. كان هناك الكثير من الرجعية والعنف في الدولة الرأسمالية بعد الاضطرابات التي حدثت في جميع أنحاء العالم عام 1968، وكان ينبغي علينا توثيق ذلك. لكن بالنسبة لي؛ لم أقم فقط بالتقاط الصور لغرض الاستفزاز؛ بل باعتبار هذا العمل محاولة تجريبية لصياغة نمط جديد في التصوير الفوتوغرافي".
تيراياما الذي تُوفِّي في العاصمة طوكيو 1983، واجهت أعماله رفضًا كبيرًا سواء في حياته أو بعدها انقضائها من قبل أصحاب النزعة المحافظة، على الصعيدين السياسي والثقافي.
ومع ذلك كان من الصعب إعادة تجربة شوجي خارج اليابان، لما تتضمنه أعماله من خصوصية كبيرة لمعطيات عصره، وارتباطها بالحضارة اليابانية والبناء الثقافي المحلي. وينطبق الأمر نفسه على مخرجين آخرين مثل ماساكي كوباياشي الذي توفى عام 1996، وعالج موضوعات مشابهة لتيراياما، لكن بنمط إعادة إنتاج الماضي. بينما لامس تيراياما الواقع "الحاضر، الآن"، واصطدم به. وليس هناك دليل على ذلك أدق من قيام تيراياما في فكرة فانتازية تمامًا بإعادة بطل فيلم "الموت في القرية" للقاء ومواجهة نفسه في الماضي وهو طفل، في إلغاء تام لفكرة الزمن، وفي تجسيد قوي للأزمة الذاتية/ الوطنية في أعماله .

(*) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة دول المحور "اليابان وألمانيا وإيطاليا"، يستمر التواجد العسكري الأمريكي في اليابان بقوة خاصة. وظلت اليابان تابعة "للكتلة الغربية" التي تقودها الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، التي انتهت في مطلع التسعينات. وأخرج تيراياما أفلامه خلال تلك الفترة التي كانت فيها اليابان تابعة للولايات المتحدة.

Tuesday, 12 January 2016

قليلٌ من الفن لا يؤذي أحد، روي جييرا وبورخيس وشوارع ريو دي جانيرو اللا مُبالية


قليلٌ من الفن لا يؤذي أحد، روي جييرا وبورخيس وشوارع ريو دي جانيرو اللا مُبالية


ترك روي جييرا دراسته في البرازيل وسافر لباريس، وجد الموجة الجديدة لكنه قرر أن يخلق موجته الخاصة في فيلم مُعدومو الضمير في صيف 1962، هو فيلم يحكي قصة ابتزاز، أي موضوع مُتكرر ولا يخلق فضاءات جديدة على مستوى البناء الدرامي، لكن يُمكن أن يختار جييرا فضاءًا آخر عبر الكاميرا، أن يعطيها الحرية لفترات طويلة لتُجسد فكرة الإذلال التي تتعرض لها الضحية.

تم تسمية أعمال جييرا التي تلت وأعمال مخرجين آخرين فيما بعد بأنها السينما نوفو اللاتينية، الكاميرا تتحرك بكل هدوء وحرية، الأوت أوف فوكس "الكاميرا التي لا تُركز على مادة أو موضوع بعينه" هذا التكنيك
 الذي احتفظ به حتى أفلامه المتأخرة، لم يتغير الأمر سواء بأفلامة الأبيض والأسود أو الملونة، ولكن هذا التنقل السلس ما بين المشاهد كان سمة أُخذت عن الموجة الفرنسية.



يبدو أن شخوص أفلام جييرا تشعر دائمًا بأنها في مأزق، بلا حيلة فالتصرفات الأساسية والمحورية في أي فيلم تبدو مباغتة ومستهترة، كأبطال فيلمه الأول أوس كافاجيستس، لويس نوفا مهندس الصوت في هذا العمل لصنع عملية التناسق الغائبة عن الصورة وتعويضها بلغة أخرى، هى لغة جديدة وعصرية تمامًا.

تبدو الشكوى غائبة عن النص الذي كتبه الذي كتبه جييرا بنفسه، فالشكوى أساسها حركة الجسد، العين، القدم، اليد وهو أمر آخر يجعل السيمولوجيا أو اللغة التي تظهر في التكوين البصري مضطربة، جييرا لا يبحث عن حلول بصرية وهنا يختلف تمامًا عن الميثاق والنسق الذي كان موجودًا في إيطاليا وفرنسا بهذا الوقت، فاتحًا الباب لمدارس أخرى تثور على الشائع في هذا العصر وعلى النظريات السينمائية.



استورفو من أعماله المتأخرة


أعود لفيلم معدومو الضمير Os cafajestes' خاصة والذي سبب جدلًا بسبب مشهد الإذلال الذي تعرضت له الضحية والتي مثلتها نورما بيجيل، بغض النظر عن وقف الفيلم من دور العرض وعدم نجاحه التجاري فإنه أحدث قلقًا، فكرة التجريب وخلق جماليات جديدة على مستوى التقنية المصورة، إحداث أيضًا صورة تستنكر أوضاعًا اجتماعية تهدد السلطة في البرازيل، مع ذلك فرض الفيلم نفسه في مهرجان برلين السينمائي، ولم يقابل باحتفال كبير ولكن تم وصفه من قبل بعض النقاد أنه يميل لسينما أكثر واقعية شكلًا ومضمونًا بدلًا من الأعمال الشبيهة بسينما هوليوود أو الحكايات الكوميدية الشعبية.


منظر التعري لنورما بينجيل كان رمزية من المخرج الذي حاول أن يُخرج الصوت الحقيقي وهنا مرة أخرى كان تعاونه المدهش مع لويس نوفا في إزكاء فكرة "صوت الشارع"، كان أبطال الفيلم أربعة، اثنين من المبتزين وبنتين من الطبقة الوسطى العليا، ولكن السرد كان أشمل من النص، السرد أي استخدام جميع عناصر اللغة السينمائية، الصورة وحركة الكاميرا، الضوضاء والموسيقى.
عدم النجاح الجماهيري والسخط لأسباب "يُقال عليها أخلاقية" صرفت النظر عن ما حققه هذا العمل، ابتكار لغة حديثة وسرد غير
تقليدي، فتلك الكاميرا التي تتأرجح "من قبل مدير التصوير توني راباتوني" وتلك المشاهد القاسية
والتي تسبب الدوار نوعًا ما كان نقطة الانطلاق لتلك السينما الثورية اللاتينية، السينما نوفو.

في أعمال رويجييرا المتأخرة رأيا أنه تخلى عن الطابع الوثائقي الذي يتعلق بمشاهد الشارع، تخلى عن الضبابية والتحرك السريع
 مابين المارة في الشوارع، ربما أيضًا ترك اتجاهه السياسي الثوري، ذلك الذي يتعلق مثلًا بفتاة تقبل العمل كعاهرة مقابل أن تجد مكانًا للنوم، تلك الصور المُجردة والرمزية تمامًا ولذلك قُدر لهذا الاتجاه أن يموت أو يخفت لعقود طويلة، تلك الاستعارة التي قام بها جاندر قبل أن يقم بجريمته حينما سأل ليديا إذا كانت قد التقطت لنفسها صورة وهى عارية عندما كانت طفلة، استعارة لفكرة بورخيس عن الاستثارة الجنسية عن طريق توحيد التجربة الانسانية، ما بين الزمان والمكان.




"القليل من الفن لا يؤذي أحدًا"، ربما تلك الجملة التي نطق بها فافا لزميله جاندر قبل أن يعطيه بعضًا من الحبوب لكي يصبح أكثر شجاعة لتنفيذ عملية الابتزاز بشأن "ليديا"، وعمها المليونير، نعم إنه الفن الخاص بهم، ولكن ربما كانت أيضًا رسالة خفية من جييرا، والآن فإن ليديا أمام أمرين، الفضيحة أو أن تغتصب، أو ربما ممارسة الجنس بمحض إرادتها، حينها يُسمع من راديو السيارة أن الرئيس الأمريكي جون كينيدي.

بصدد إعطاء توجيهاته العسكرية، وخطاب آخر من راؤول كاسترو عن الإمبريالية، والدراما التي تدور بين الأربع شخصيات، تافهة ومبتذلة وضئيلة للغاية.




ما بين ضآلة التجربة وهزالة الجسد، كانت هناك الكاميرا التي تجوب شوارع ديو جانيرو، بعض الناس يظهرون فضولهم للكاميرا، وليديا تهتز وتسقط، بعض الأضواء الخافتة والضبابية، وليديا تطلب الرحمة بكلتا ليديها، المأساة مبتذلة وبلا روح أمام فرمانات العسكريين، أصوات السيارة وصيحات المستهترون والكاميرا التي تدور بشكلٍ دائري ونظرة احتقار نورما بينجيل التي لا تجدي شيئًا، كان ذلك حقًا الميلاد الحقيقي لها، أو للسينما نوفو.


Thursday, 7 January 2016

جودار و لانوفيل فاج، النقد هو فعل التفكير في السينما، كل الأفلام مُقدر لها أن تموت


جان لوك جودار، لقد أتيت إلى السينما عبر النقد، إلى أي حد يشعرك هذا بأنك مدين؟


كل واحد كان في كراسات السينما فكر في نفسه على أنه سيصبح مخرجًا في المستقبل، ارتياد نوادي السينما والسينماتك كانت بالفعل وسيلة للتفكير كسينما أو التفكير حول السينما، وكانت الكتابة وسيلة لصنع الأفلام، الفارق ما بين الكتابة والإخراج هو شيء كمي لا نوعي. الناقد الكامل بنسبة 100% كان هو أندريه بازان أما الآخرين - سادول، بيلا بالاش وباسينيتي- فقد كانوا مؤرخين وعلماء اجتماع وليسوا نقادًا، كناقد فكرت في نفسي كصانع فيلم وحتى هذا اليوم مازلت أعتبر نفسي ناقدًا وبمعنى آخر أعتقد أنني أقتص بعض الوقت لصناعة الفيلم من الوقت المفترض أن أكتب فيه النقد، أنا أعتبر نفسي كاتبًا أحاول إنتاج مقالات على في شكل رواية أو روايات في شكل مقال، ما يحدث في لحظة ما هو أنني بدلًا من أكتب، أقوم بالتصوير، عندما تختفي السينما سأذهب للتلفزيون، حينما يختفي التلفزيون سوف أعود إلى الورقة والقلم..هناك استمرارية واضحة ما بين جميع أشكال التعبير، بل إنها كلها تنتمي إلى شيء واحد، الشيء المهم هو أن تقترب من الجانب الذي يلائمك أكثر.


أعتقد أيضًا أنه لا يوجد أي وجاهة في أن يصبح المرء مخرجًا قبل أن يكون ناقدًا أولًا، عندما حدث وأن قمنا بالإخراج جاءت الأمور بالطريقة التي وصفتها، ولكن هذه ليست قاعدة، جاك ريفيت و رومير قدموا أفلام بـ16 مل ولكن إذا كان النقاد قد أصبحوا على اول درجة من السلم فالبعض يعتقد أن النقد كان مجرد وسيلة ولكن لا، نحن كنا نفكر في السينما وفي وقت ما شعرنا بحاجتنا لتمديد تلك الأفكار.


النقد علمنا أن نُعجّب بكلًا من روس وآيزنشتاين، من هذا تعلمنا أن لا نقصي جانبًا معينًا من السينما لصالح آخر، تعلمنا أيضًا أن نصنع فيلمًا من وجهة نظر معينة، ولمعرفة أنه إذا كان هناك شيء قد تم فعله فليس هناك حاجة لفعله مرة أخرى، الكاتب الشاب اليوم يعرف أن موليير وشكسبير كانوا موجودين، نحن كنا أول المخرجين الذي عرفنا بأن جريفيث موجود، حتى مارسيل كارني، لويس ديلوس ورينيه كلير عندما قاموا بأولى أفلامهم لم يكن لديهم أي خلفية نقدية او تاريخية حقيقية، حتى رينوار كان لديه خلفية بسيطة ولكنه بالطبع كان يملك العبقرية.

جاغوار - جين روس "1967
           



يقول الناس أنه لا يعد بإمكانك الكتابة عن زملائك، وأنه يصبح من الصعب تمامًا أن تشرب القهوة مع شخص إذا ما كنت قد كتبت عنه بعد الظهيرة أنه قام بصنع فيلم سخيف ولكن الشيء المميز في الكراسات عن البقية ومبدئنا هو أنه إذا أححبت فيلمًا ما فلتكتب عنه وإذا لم يعجبك فلا تزعج نفسك بتجزئته والكتابة عنه، مثل فيلم "وداعًا فليبين"، البعض يُمكن أن يقول عن فيلم متوسط أنه رائع ولكني شخصيًا أفضل التمسك بالمبدء وقول ذلك في مكان آخر بدلًا من الكتابة عنه لأن الشيء المهم هو أن تسلك مسلكًا احترفيًا في الطريق حول خلق طريقة تفكير جديدة في السينما، لو كان لديّ المال فأنا أُفضل أن أدفعه لأجل ورقة في صحيفة تجارية للحديث حول هذا الفيلم، حيث سيكون هناك أشخاص مؤهلين أفضل مني للحديث عنه.

جودار وشابرول


موقفك النقدي هذا يتناقض مع فكرة الارتجال والتي ترتبط بك؟ نعم أنا أرتجل بالتأكيد ولكن مع الأشياء التي تأخذ وقتًا طويلًا، على مر السنين تتراكم عليك الأشياء ثم تجد نفسك تستخدمهم في صناعة الفيلم، أول أفلامي القصيرة قمت بالإعداد لها جيدًا جدًا وقمت بتصويرهم بسرعة جدًا.."نفس لاهث"بدأ بهذه الطريقة، فلقد كتبت المشهد الأول، أما بقية المشاهد فكانت عبارة عن مجموعة من الملاحظات، ولكني قلت لنفسي أن هذا أمر فظيع وتوقف كل شيء ثم فكرت في أنني يجب أن آخذ عشرات اللقطات فقط بدلًا من التخطيط لما سأفعل وأنني يمكنني أن أرتجل وأخلق شيئًا في اللحظة الأخيرة، ولكن من الواضح أن عليك أن تعرف إلى أين انت ذاهب قبل أن تجعل هذا ممكنًا، يجب أن يكون لديك خطة شاملة وأن تتشبث بها، ويمكنك أن تقوم بالتعديل عندما تصل إلى التفكير مليًا ولكن عندما يبدأ التصوير فعليك أن تقوم بأقل قدر من التغيير، وإلا فإن الأمر سيكون كارثيًا.






عندما تبدأ بصناعة فيلم، فما الذي يعنيه لك هذا؟ يمكن للمرء أن يستفيد مما شاهده بالفعل في السينما وخلق مراجع واضحة ومتعمدة له، هذا أمر صحيح بالنسبة لي، فهو أشبه بتذوقك لبعض الاقتباسات والاحتفاظ بها، لماذا يجب أن تلام على ذلك؟ الناس في الحياة يقتبسون كما يشاؤون لذلك لديّ الحق في أقتبس ما يحلو لي، فعندما أكتب الملاحظات أريد أن أدون أي شيء يمكن أن يكون ذا فائدة للفيلم وسوف أقوم بالاقتباس من دوستويفسكي إذا كنت أرغب في ذلك.لما لا؟ إذا كنت تريد أن تقول شيئًا فلا يوجد سوى حل واحد، هو ان تقوله، ولكن هذا لا يجب أن يتحول إلى قاعدة، هناك بعض الأفلام التي يكون فيها من الضروري فعل ذلك وأفلام أخرى يكون عليك أن تفعل ذلك بشكلٍ أكثر ترددًا.


أنا أقوم بصنع أفلام ذات ميزانيات منخفضة ويمكنني أن أطلب من المنتجين خمسة أسابيع كجدول زمني مع العلم أنه سيكون هناك فقط أسبوعين من التصوير فعليًا ، فيلم "أن تحيا"أخذ خمسة أربعة أسابيع ولكن التصوير توقف طوال الأسبوع الثاني، الصعوبة الكبرى بالنسبة لي هو أنني أريد أشخاص تحت تصرفي بطوال الوقت وأحيانًا أضطر للانتظار يومًا كاملًا قبل أن أقول لهم ما أريد فعله وأطلب منهم عدم مغادرة المكان عندما نبدأ بالتصوير مرة أخرى، بالطبع لا يحبون ذلك ولهذا السبب أحب أن يُدفع للناس الذين يعملون معي بشكلٍ جيد، الممثلين لا يحبون ذلك لسبب مختلف: فالممثل يحب أن شعر بأنه لديه سيطرة تامة على شخصيته حتى وإن كان هذا غير صحيح ومعي فإن نادرًا ما يحدث هذا، الشيء المرعب في السينما هو أنه لا يمكنك أن تفعل ما يفعله الرسام بشكلٍ طبيعي جدًا، فهو يتوقف ويعود خطوات للوراء، يُصاب بالإحباط ويبدأ مرة أخرى، يتغير كل شيء وفي النهاية يُمكن أن يشعر بانه قد أرضى نفسه
.

لكن هذه الطريقة غير صالحة للجميع، هناك مجموعتين أساسيتين من المخرجين، وأضع آيزنشتاين وهيشتكوك في جانب واحد فهم أولئك المخرجين الذين يقومون بإعداد أفلامهم على اكمل وجه، يعرفون ما يريدون وكل شيء في رأسهم، وضعوه على الورق ويبقى فقط التطبيق العملي، رينيه يشبهمها في ذلك، ولكن واحد مثل جين روس لا يعرف بالظبط ما ينوي القيام به، إنه يبحث، الفيلم هو عبارة عن بحث، وهو يعرف أن سيصل في النهاية لمكانٍ ما ولديه الوسيلة للقيام بذلك
.

هناك نوع يصنع أعماله بشكلٍ دائري وآخرين يصنعونها في خط مستقيم، رينوار هو واحد من القلة الذين يستطيعون القيام بالنوعين في نفس الوقت، وهذا هو سبب سحره، أما روسيليني فهو شيء آخر تمامًا، لديه رؤية نادرة دقيقة عن مجمل الأمور، حتى أنني أعتقد أن أفلامه ليست لها غير طريقة واحدة ممكنة وأن لا يوجد أحد يستطيع أن يقوم بتصوير السيناريوهات التي يكتبها روسيليني، لا يوجد أحد يسأل نفس أسألته أبدًا، رؤيته للعالم هى نفس رؤيته للتفاصيل على الشاشة، صورته تصبح جميلة لأنها حقيقية، أما عند
الآخرين فالصورة تصبح حقيقية عندما تكون جميلة.





إنهم يحاولون خلق شيء رائع، وبالفعل يكون كذلك، ولكن يُمكن للمرء أن يرى أن هناك أسباب لنجاحهم في ذلك، لكن روسيليني..يفعل شيئًا يجد سببًا لفعله، وهو أن الشيء يبدو جميلًا لأنه فعلًا يحتوى على جمال خاص به أو ما يُمكن ان أسميه بـ-روعة الحقيقة-، أي أن هناك مخرجين يحاولون البحث عن الحقيقة والتي إذا وجودها ستكون بالضرورة جميلة، البعض الآخر يسعى للجمال والذي إذا وجدوه سيكون أيضًا حقيقي، أجد أيضًا أن هناك قطبين من المخرجين بشكلٍ عام، بعض المخرجين يبدأون من الوثائقي ويخلقون الخيال مثل فلاهيرتي الذي لديه عناية قوية بأفلامه، والبعض الآخر يبدأ من الخيال ومن ثم يصنع الوثائقي، إيزنشتاين يبدأ من المونتاج وينتهي الأمر به بصناعة فيلم مثل "كيو فيفا مكسيكو".

جان كوكتو في "أورفيوس"



السينما هى الفن الوحيد الذي "كما يقول كوكتو" الذي يموت أثناء العمل به، أي أفلام يصنعها الشخص تتقدم في العمر وتموت، لذا فإن كل واحد منّا يُسجل لحظة الموت أثناء العمل، اللوحة تكون ثابتة، السينما مثيرة للاهتمام لأنها تُصور الحياة والجانب المميت من الحياة.


لقد بدأت أنا من الوثائقي، لأنني أردت أن أُعطي صفة الصدق للخيالي وهذا هو السبب الذي جعلني دائمًا اعمل مع ممثلين محترفين جيدين، بدونهم لن تكون أفلامي بنفس الجودة، أعطيت اهتمامًا أيضًا للجانب المسرحي، حدث ذلك بالفعل في فيلم" لابيتي سولدا"

حينها كنت أحاول اكتشاف الدقة، لاحظت أنني كلما ازددت اقتربًا من الدقة كلمًا ازددت اقترابًا من المسرح،




كان "أن تعيش" دقيقًا جدًا وفي نفس الوقت مسرحي جدًا، حاولت أن أظهر من خلال السينما ما هو المسرح، من خلال أن تصبح واقعي تجد نفسك قد اكتشفت المسرح، وخلف المسرح هناك الحياة، وخلف الحياة هناك المسرح
.

لقد بدأت من الخيال واكتشفت الواقع، ولكن خلف الواقعي ستجد أيضًا الخيالي، المنتجين يقولون أن جودار يتحدث عن أي شيء يشارء، جيمس جويس، الميتافزيقيا أو عن لوحة ولكنه دائمًا لديه الجانب التجاري ولكني لا أشعر بهذا على الإطلاق، لا أرى أنهما أمرين ولكنه أمر واحد.


ربما يُمكن أن تُرى الموجة الجديدة على أنها جزء من علاقة جديدة يُربط فيها الخيال بالواقع وربما أيضًا يمكن أن نرى أنها تنقل الحنين والأسف على سينما لم تعد موجودة، عندما كنا قادرين على صناعة الأفلام، الآن لا يمكننا تقديم هذا النوع من الأفلام الذي جعلنا نرغب في صناعة الأفلام.


البعض يرى أن الموجة الفرنسية الجديدة

تقف في جانب الأعمال ذات الميزانيات المنخفضة ضد الاعمال ذات الميزانيات الضخمة ولكن الأمر ليس كذلك ببساطة إنه تقف مع الأفلام الجيدة ضد الأفلام السيئة، ولكن في النهاية الأفلام ذات الميزانية المنخفضة أثببت أنها الطريق الوحيد لكي نصنع أفلامنا، بالطبع، فبعض الأفلام تكون أفضل عندما تتكلف القليل، ولكن بعد ذلك عليك أن تفكر في كل الأفلام التي أصبحت جيدة بفضل كل تلك الأموال التي صُرفت عليها.


لديّ أشياء كثيرة مشتركة مع جيلي، ولكني بالطبع أختلف عن رفييه ورومير أو تروفو، لكن بشكل عام نحن نتقاسم نفس الأفكار حول السينما ونتقاسم حبنا لبعض الروايات، اللوحات والأفلام، لدينا أشياء أخرى مشتركة ولكن الخلافات كبيرة حول بعض الأشياء الصغيرة، وصغيرة حول بعض الأمور الكبيرة، حتى لو لم يكن الأمر كذلك، فحقيقة أننا كنا جميعًا كنقاد نركز أكثر على الاتنماءات أكثر من الخلافات، نحن لا نقوم بصناعة نفس الأفلام بطبيعة الحال، عندما أشاهدتلك الأعمال التي يُقال عنها عادية فإن أكثر ما يذهلني فيها أنني أرى بها الفرق في الاختلافات فيما بيننا والاختلافات ما بين أفلامنا..

ركبة كلير - إيريك رومير


وبطبيعة الحال يجب أن يكون هناك فارق كبيرة لأنني عادة ما أميل إلى رؤية الصلات ما بين الأشياء، على سبيل المثال قبل الحرب كان هناك فرق ما بين أفلام رينوار ولكن الجودة واحدة

بينما الآن هناك فرق حقيقي في الجودة بين أفلامنا وما بين أفلام كارني وديلانوني


الشيء نفسه ينطبق على عملية النقد، لقد أبقت الكراسات نفس النمط الخاص بها ولكن هذا لم يمنعها من الانحدار، ما جعلها تنحدر حقيقة هو أنه لم يعد هناك أي موقف للدفاع عنه، كان هناك دائمًا ما يمكن أن تقوله، الآن الجميع متفقين وليس هناك الكثير لتقوله،لم
 يعد هناك االشيء الذي جعل الكراسات في الخط الامامي من المعركة.


هناك نوعين من القيم: الصواب والخطأ وقد جاءت الكراسات لتقول أن ماهو صواب كان خاطئًا وما كان خاطئًا كان صوابًا، اليوم لم يعد هناك لا صواب ولا خطأ، وكل شيء أصبح أكثر صعوبة بكثير لأن النقاد أصبحوا كما الجيوش في وقت السلم، يخرجون للمناورات من وقتٍ لآخر وأعتقد أن هذه هى مرحلة عابرة، لقد انقسمت الكراسات إلى عشائر وهذا يحدث مع جميع النقاد ولاسيما الشباب منهم بعد أن يصلوا إلى نفس المرحلة، كما حدث عندما انقسمت البروتستانتية إلى عدد لا يصدق من الطوائف، هذا أمر طبيعي لأن كل شخص لديه ما هو مُفضل عنده ومُجبر على أن يمقت ماهو مُفضل عند أي شخص آخر.

جودار  في حوارمع صحيفة بيلد الألمانية




بالطبع أصبحت عملية النقد أصعب مما كنت عليه وكل واحد أصبح لديه نفس الأخطاء التي تعاني منها الكراسات الآن ولكن على الأقل لدينا تشابه في الأمور التي نبحث عنها..


من لا يبحث سيظل مخدوعًا لمدة طويلة، ومن ثم بعد أن يبحث ستصبح الأمور واضحة تمامًا في نهاية المطاف.


karasatilcinema.blogspot.com
                                                                    حسابي على الفيس
                                                               رابط المدونة على الفيس بوك